قمة مغلقة في قصر "عنتبي" العتيق .. "موسفيني" يسأل عن الشاي.. و"البشير" يطلب معرضاً لـ(جياد)
الرئيس في ” أوغندا “.. رحلة المتغيِّرات الكبرى!
تفاصيل يوم في مزرعة الرئيس الأوغندي .. “موسفيني” يقود السيارة و “البشير” عن يساره!
كمبالا – الهندى عز الدين
رغم أن زيارة الرئيس “عمر البشير” للعاصمة الأوغندية لم تتجاوز يومَيْ (الاثنين) و(الثلاثاء)، لكنها كانت رحلة مختلفة بكل المقاييس، وربما كانت الأكثر نجاحاً وحميمة بين جميع رحلات الرئيس “البشير” الخارجية خلال السنوات الأخيرة، هذا ليس رأيي، بل ما عبَّر عنه وزير الخارجية البروفيسور “إبراهيم غندور” عندما وصفها بأنها (رحلة تأريخية)، فضلاً عما رأيناه بأعيننا من حرارة الاستقبال ودفء الوداع!
في مطار “عنتبي” كان الرئيس “يوري موسفيني” على رأس مستقبلي رئيس الجمهورية عند سلم الطائرة، فيما احتشدت صالات كبار الزوار بصور الرئيس “البشير” مع عبارات الترحيب بالضيف الكبير .
وفي القصر الرئاسي بالعاصمة السياسية “عنتبي” جرت مراسم وبرتوكولات فائقة الروعة وبالغة النظام استعرض خلالها الرئيس “البشير” طابور الشرف فيما عزفت الفرقة العسكرية النشيدين الجمهوريين للسودان وأوغندا .
مباني مقر الرئاسة تبدو أثرية وتقليدية، تمتد أفقياً على ارتفاع طابقين، ويرقد القصر على حدائق غناء وأشجار كثيفة وارفة شكَّلت لوحة فنية خضراء على مساحات واسعة .
صالات وقاعات اجتماعات مقر الرئاسة غاية في البساطة، و يرسم التقشف ملامحه على المشهد العام ابتداءً من ملابس الوزراء والوزيرات وإلى ديكور وتجهيزات مباني وقاعات (القصر)، الذي لم تنقص البساطة من جماله وأناقته ونظامه الدقيق!
– القمة المغلقة والمباحثات المشتركة
بعد مراسم الاستقبال، دخل الرئيسان منفردين في اجتماع مغلق استمر لساعتين، بينما انخرط الوزراء من كل جانب في مباحثات ثنائية في قاعة مجاورة .
ضم وفد الرئيس وزراء رئاسة الجمهورية الدكتور “فضل عبدالله”، الخارجية البروفيسور “إبراهيم غندور”، الزراعة بروفيسور “عبد اللطيف العجيمي”، التجارة الخارجية الأستاذ “حاتم السر”، مدير جهاز الأمن والمخابرات الفريق أول “محمد عطا المولى”، وزير الدولة بالرئاسة مدير مكاتب الرئيس الأستاذ “حاتم حسن بخيت”، محافظ بنك السودان المركزي الأستاذ “حازم عبد القادر”.
بدأت المحادثات الوزارية بأسئلة استكشافية من وفد السودان للوفد الأوغندي حول قضايا الاقتصاد والتجارة والزراعة، و ظل بروفيسور “غندور” يؤدي وظيفة (صانع الألعاب) في منتخب السودان، بتقديمه للأسئلة وإدارته للحوار مقابل وزير الدولة اليوغندي، إلى أن وصل الرئيسان إلى قاعة الاجتماع .
– “موسفيني”.. سؤال مستمر عن الشاي!
بدأ الرئيس “موسفيني” جلسة المباحثات مرحِّباً بحرارة بالرئيس “البشير” ووفده الزائر، وهنأه على قرار الإدارة الأمريكية برفع العقوبات الاقتصادية عن السودان، ما يساعد على تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين.
وركَّز “موسفيني” على أهمية زيادة صادرات (الشاي) و (البن) للسودان، وكان كلما تقدَّم الحوار عن قضية يعود “موسفيني” ليسأل : وماذا عن الشاي؟! وقد جاءته الإجابة في جلسة المباحثات الثانية، عندما أتيحت الفرصة لرجال الأعمال السودانيين، فتحدَّث عن موضوع الشاي والبن رئيس مجلس إدارة شركة (كوفتي) السيد “محمد صالح إدريس”، وأوضح أنهم استوردوا من أوغندا العام الماضي (شاي) بمبلغ (30) مليون دولار، و(بن) بقيمة (70) مليون دولار، لتبلغ الجملة (100) مليون دولار، وطالب “محمد صالح” رجال الأعمال الأوغنديين بالاستثمار أو الاستيراد من السودان بذات المبالغ أو الاتفاق على تبادل سلعي بين البلدين، بحيث تُصدَّر سلعة مقابل استيراد أخرى من الطرف الآخر.
وفد رجال الأعمال ضم أيضاً مدير عام شركة (أميفارما) لصناعة الدواء الدكتور “أحمد البدوي محمد الأمين حامد” الذي قدَّم شرحاً مفصَّلاً مسنوداً بأرقام وصور وفيديو لمنتجات (أميفارما) وشقيقاتها في المجالات الأخرى بما في ذلك صناعة الثلاجات والأثاثات والديكور .
كما شارك ممثل مجموعة (جياد) مدير شركة الجرارات المهندس “صلاح دفع الله” في المحادثات وقدَّم عرضاً ضافياً عن منتجات المجموعة في صناعة السيارات والشاحنات و الجرارات والحديد والأثاثات المدرسية وغيرها. وعرض مدير (جياد) فيلماً وثائقياً عن المجموعة باللغة الإنجليزية، نال إعجاب طاقم الحكومة الأوغندية وشدَّ انتباههم ومثَّل فخراً للصناعة السودانية.
“البشير” يطلب معرض لـ(جياد) في “كمبالا ” و “موسفيني” يوافق
عندما لاحظ الرئيس “البشير” اهتمام الجانب الأوغندي و دهشته من وجود صناعة تجميع سيارات وجرارات وإنتاج حديد وسيخ في السودان، طلب من الرئيس “موسفيني” السماح لمجموعة (جياد) بإقامة معرض في “كمبالا”، فوافق “موسفيني” على الفور ووجَّه وزراءه بتقديم اللازم لقيام المعرض.
– أداء تنفيذي رفيع للرئيسين
تجلَّت خبرة الرئيسين السوداني والأوغندي الطويلة في إدارة اجتماعات مجلس الوزراء في البلدين من خلال المحادثات، فالرئيس “موسفيني” الذي حكم بلاده (31) عاماً، منذ العام 1986، وقبلها شغل منصب وزير الدفاع عام 1979م، ثم منصب نائب رئيس الجمهورية عام 1985م، كانت توجيهاته للوزراء عملية وسريعة خلال المناقشات بضرورة الجلوس مع المسؤول المختص من الجانب السوداني للوصول لتفاهمات مثمرة .
وبالمقابل كان الرئيس “البشير” حاضراً ومتقد الذهن، مثلما كانت تعليقاته تعكس القدرة العالية على المتابعة والتوجيه .
– رؤساء التحرير داخل المحادثات
كان لي شرف حضور المحادثات ضمن الوفد الوزاري مع زميلَيْ الأستاذين “محمد الفاتح أحمد “رئيس تحرير (ألوان) و “ضياء الدين بلال” رئيس تحرير (السوداني) . وقد ساعد ذلك في معرفة خبايا الزيارة والإلمام بتفاصيلها.
– “نجوى قدح الدم”.. أم العروس!
شكَّلت مستشارة الرئيس الأوغندي السودانية الأصل “نجوى قدح الدم” حضوراً لافتاً في تنظيم وتنسيق الزيارة، كما جلست ضمن الوفد الأوغندي كمستشارة لشؤون الاستثمار.
وبذلت الشابة النشطة “نجوى” جهداً جبَّاراً في الحركة بين الوفدين، ولا شك أنها من مهندسي تطبيع العلاقات السودانية – الأوغندية، بعد أن شهدت فواصل طويلة من التوترات و الاتهامات.
“موسفيني” يكتفي بالبيان الختامي!
صدر البيان الختامي للمحادثات في نهاية اليوم الأول ووقعه وزيرا الخارجية في البلدين بحضور الرئيسين وعدد كبير من مناديب أجهزة الإعلام العالمية، غير أن الرئيس “موسفيني” اكتفى بتلاوة وزيره للبيان الختامي، وخاطب الصحفيين قائلاً : ( This is the end of the story ) !!
وغادر الرئيسان القاعة دون الاستماع لأسئلة مراسلي الوكالات العالمية .
أهم ما في البيان التأكيد على دعم السلام في جنوب السودان و الصومال والاتفاق على تنظيم ملتقى اقتصادي في الخرطوم يضم السودان وأوغندا ودول عربية.
– مزرعة البقر..!
كان احتفاء “موسفيني” بـ”البشير” خاصاً جداً ومختلفاً هذه المرة، ما جعل البروف “غندور” يعلِّق هامساً للرئيس “البشير” عدة مرات (زيارة تأريخية) .. وأكد على ذلك “البشير” بأنها فعلاً (حميمة).
في اليوم الثاني وبينما واصل الوفد الاقتصادي بقيادة وزير التجارة “حاتم السر” مواصلة محادثاته في “عنتبي”، دعا “موسفيني” ضيفه الكبير إلى رحلة لمزرعته التي تبعد خارج العاصمة نصف ساعة عبر الطائرة (الهليوكوبتر) . وبالفعل طارت بنا (3) مروحيات باتجاه منطقة “كيسوزو” حيث تمتد مزرعة الرئيس الأوغندي على مساحة (10) كيلو مترات مربعة!!
المئات من الأبقار ذات القرون الطويلة المدبَّبة مرت من أمام الرئيسين، وظل “موسفيني” يحدِّث ضيفه ومرافقيه من الوفد السوداني لأكثر من ساعة عن تاريخ امتلاك أسرته للأبقار و كيف أنه نمَّاها فصارت بالمئات .
كان لافتاً حديث “موسفيني” الجانبي مع سيدة أربعينية تعمل في رعاية هذه (المرحات) من الأبقار بكل بساطة، وكأنما الذي يحادث (الراعية) التي تهش على البقر بعصا رقيقة ليس ذلك (الجنرال) القوي شديد المراس الذي يعد من أعظم وأقدم الرؤساء الذين مروا على القارة السمراء!!
وبعد همسه مع راعية البقر، نادى الرئيس على فتى في الثانية عشر من عمره وطلب منه أن يعزف للحضور من صفارة تشبه آلة (الفلوت)، فعزف بإجادة، فاستحق مظروفاً نقدياً من “موسفيني” وتحفيز من مدير مراسم رئاسة الجمهورية بالسودان السيد “عاطف عبد الرحمن”.
الرئيس “البشير” علَّق ساخراً على مساحة المزرعة التي لا يمكن التجوُّل داخلها من غير سيارات الدفع الرباعي لكبر المساحة، بأنه عندما يزور “موسفيني” الخرطوم المرة القادمة، لا حل سوى الذهاب به لمزرعة “أسامة داوود ” لتربية الأبقار، باعتبار أنها مزرعة الرئيس!! فمزرعة “البشير” الخاصة ذات (الثمانية أفدنة) لا تنافس و لا تليق بمقام الضيافة الذي أفاض فيه “موسفيني” .
اللافت في زيارة المزرعة غير الأبقار التي تختلف عن هيئة أبقارنا في السودان، أن الرئيس “موسفيني” كان يقود السيارة لاندكروزر (دركسون يمين مثل بريطانيا) بينما جلس الرئيس “البشير” عن يساره، فيما انصرفت الحراسات إلى سيارات أخرى!! علَّقت على المشهد لأحد أعضاء الوفد بأنه يشبه قيادة الفريق “عبد الرحيم محمد حسين” لسيارة الرئيس أو سيارة الوالي في الأمسيات خلال برامج الزيارات الاجتماعية!!
وهذا يعكس، بل يلخص إلى أي درجة بلغت درجات حميمة هذه الزيارة، فقد تبدَّل واقع العلاقات (180 درجة)، وربما تحقق بذلك ما جاء في المثل الشهير : (و ما من محبة إلا بعد عداوة)!!
وداع حار جداً..!!
في وداع “البشير” ظل “موسفيني” واقفاً قبالة مدرَّج المطار حتى طارت الطائرة، وهو يتمثَّل وقفة جندي في العشرين من عمره رغم أن الرجل من مواليد العام 1944م!!.