مسامرات
محمد إبراهيم الحاج
أبناء الفنانين
في كل بلاد الدنيا يمثل الفن أحد المكونات القوية التي تساهم بقدر كبير في تهذيب الحياة وإعادة ترتيبها، كما أنها تؤثر تأثيراً واضحاً يطال الاقتصاد والسياسة ويسهم بقوة في علاج كثير من القضايا والمشاكل الاجتماعية، ولهذا فإن أغلب البلدان لا تتعامل مع الفنون كنوع من الترف أو أداة لكسب العيش.
*بيد أن الأمر في السودان يبدو معكوساً للغاية لأن نظرة الكثيرين – ومنهم المستنيرين- للفنون لا تتعدى كونها أداة لتمضية الوقت أو للترفيه، كما أن آخرين جعلوها وسيلة سهلة للإثراء السريع.. وهو دور يحرج قيمة الفنون إجمالاً.
*لدينا إرث غنائي كبير وهو أكثر صنو للإبداع المؤثر في المجتمع السوداني، ولكن الدولة والمؤسسات العامة والأفراد يتعاملون مع هذا الإرث بنوع من الأنانية من جانب الأفراد أو كأن الأمر لا يعنيهم بشيء من جانب المؤسسات والدولة.
*قضية (أبناء الفنانين) يمثلون حلقة (قطع) لكثير من الأعمال الفنية التي ناضل آباؤهم كثيراً من أجل وجودها بشكل يكفل سرمديتها وخلودها.. ولكنهم – أي أبناء الفنانين- يحيلون هذا الإرث الإنساني إلى وسيلة للكسب المادي، ولا يتورعون عن حبسها ومنعها ومن ثم انقطاعها عن أجهزة الإعلام والقنوات وقتلها بدم بارد دون أن يطرف لهم رمش.
*أغنيات خالدة ساهمت في تشكيل وجدان الناس خلال عقود مضت، وكان من الممكن أن تسهم في تشكيل وجدان الناس خلال عقود قادمة، وكان من الممكن أن تعيد للساحة الفنية بعضاً من توازنها جراء هجمة الأغنيات منزوعة القيمة وسيطرتها على المشهد الغنائي برمته، ولكن تلك الأغنيات الرائدة ممنوعة.. ومقطوعة.. ومسحولة بأمر أبناء الفنانين الكبار.
*”أحمد المصطفى” عميد الغناء بالبلاد، وأغنيات مثل (الوسيم) و(نحن في السودان) و(زاهي في خدرو) و(بنت النيل) و(ظبية) و(يا ناسينا) وغيرها لا تزال حبيسة الأدراج وحبيسة لمزاج ابنه “عز الدين”، الذي لم يستطع أن يقنع الناس بتقمص شخصية والده الراحل، وانتصب مانعاً لكل الأجهزة الإعلامية والمطربين من نقل إرث والده إلى الأجيال القادمة، وذات الأمر يتكرر مع الراحل صاحب الحضور المسرحي الأجمل “خضر بشير”، الذي يتنقل ابنه كما السيف المسلط على رقاب مرددي تلك الأغنيات، ومنصباً من نفسه قاضياً وجلاداً على كل من تسول له نفسه ترديد أغنيات الراحل “خضر بشير”، وقاطعاً بذلك أي أثر لأغنيات مثل (برضى ليك المولى الموالي) و(الاوصفوك) و(عسعس الليل) و(وقوم بينا نلاقي منظر) و(الفجر لاح) و(إيه يا مولاي) وغيرها من الأغنيات التي جملت الوجدان وأصبحت بمثابة الثروة القومية التي احتكرها ابنه خالصة لوجهه.
*غياب مطربين كبار بوزن “أحمد المصطفى” و”خضر بشير” في وقت تتمدد فيه التجارب الغنائية الباهتة والأغنيات المصنوعة يمثل تحدياً كبيراً أمام المؤسسات المعنية بالحفاظ على الذوق العام.. لأن خدش الذوق لا يقتصر على فتاة حاسرة الشعر ولكنه يمكن أن يكون أغنية سافرة، كما أنه ليس مخدراً مثل (الشاش) فقط ولكنه يمكن أن تكون كلمات بذيئة يفوق تأثيرها السلبي كل أنواع المخدرات.. وأغنيات الراحلين الوسيمة المحجوبة تمثل ترياقاً ومصدات قوية أمام امتداد تلك الأعمال غير الملتزمة.
مسامرة أخيرة