رأي

بُعد ومسافة

“الخليفي” يعود للواجهة من خلال التقارير السرية
مصطفى أبو العزائم

يوم لن أنساه ما حييت، هو الجمعة الرابع من فبراير 1994م، وفيه وقعت أحداث مسجد أنصار السُنة المحمدية بالحارة الأولى في مدينة الثورة، وقد راح ضحية الحادث (27) شهيداً من بينهم أصدقاء أعزاء، وجرح فيه سبعة – على أقل تقدير – وقد كنت شاهداً على الحدث الذي هز مجتمعنا في الحارة الأولى وهز السودان كله والذي نفذته مجموعة صغيرة من المتطرفة قادهم “محمد عبد الرحمن الخليفي” الليبي الجنسية بهدف تصفية نائب رئيس جماعة أنصار السُنة – آنذاك – فضيلة الشيخ “أبو زيد محمد حمزة” وعدد من أنصار الجماعة الذين اعتادوا على أداء فريضة الجمعة في (مسجد حجوج) الذي عرف بعد أن تولى أمر الإمامة فيه الشيخ “أبو زيد محمد حمزة” باسم (جامع أبو زيد) ثم تحول الاسم لاحقاً إلى (جامع أنصار السُنة).
في ذلك اليوم استشهد عدد كبير من المصلين وكنت الصحفي الوحيد الذي نقل تفاصيل ما جرى إلى العالم من خلال (قصة خبرية) احتلت كل الصفحة الأولى لصحيفة (السودان الحديث)، التي كانت تصدر آنذاك ويرأس تحريرها الأستاذ “فتح الرحمن النحاس” وكنت أتعاون مع الصحيفة في نشر مواد صحفية وأعمدة رأي من حين إلى آخر وأثرت أن اتصل بالنحاس وأخبره بالجريمة التي وقعت وطلبت إليه إرسال مصدر صحفي للتوثيق.. وقد كان.
مسجد الحارة الأولى أو (جامع أنصار السُنة) أو (جامع أبو زيد) هو المسجد الذي اعتدت على أداء الجمعة فيه مثلي مثل كثير من قاطني الحي، وهو الأقرب إلى منزل الأسرة الكبير، وكنت قد ذهبت بأبنائي وأمهم مثلما اعتدنا كل جمعة إلى منزل جدهم وجدتهم – رحمهما الله، وقيض الله لي أن أكون شاهداً قريباً على الحدث، وتمكنت من وصف مرتكبي الحادث، والسيارة (البوكس) التي جاءوا عليها، ولونها ووصف ما على صندوقها الخلفي وهو (سرير حديد) أزرق اللون، مع وصف كامل للهيئة وملابس منفذي العملية، وقد رصدت عدداً من الشهداء الذين نالتهم رصاصات الغدر والجرحى الذين لم يسلموا في ذلك الهجوم من ذات الرصاصات.
عادت تفاصيل ذلك اليوم إلى ذاكرتي بالأمس بعد أن تداول ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف تطبيقاتها، وثائق سرية للسفارة الأمريكية حسب زعمهم ووفق رابط في أسفل الصفحة تم فيها نشر ما قيل إنها اعترافات “الخليفي” احتوت على اتهامات خطيرة لـ”أسامة بن لادن” وآخرين بالتحريض على تصفية جماعة أنصار السُنة لكفرهم وعمالتهم لأمريكا والغرب، مع اتهامات لشخصيات سودانية بالتورط في تغذية “الخليفي” وجماعته بالفكر السالب، وقد قال “الخليفي” في الاعترافات المنسوبة إليه أنه ومن معه لم يكونوا ضمن جماعة التكفير والهجرة كما وصفهم وزير الداخلية آنذاك “عبد الرحيم محمد حسين”، وقد أعرب “الخليفي” حسبما جاء في الوثيقة المزعومة عن اقتناعه التام بأن القيادات الإسلامية في السودان ليسوا بمسلمين، وقال إنه ليس نادم على ما فعل.. ولا على ما سيحدث له!
الشاهد في تلك القضية وما دفعني للكتابة عنها بعد مرور ثلاثة وعشرين عاماً وأكثر عليها ذلك التناقض بين علاقة “الخليفي” بـ”أسامة بن لادن” وكأنما هو الموجه والآمر الأول له ولجماعته حسبما جاء في الوثيقة، وبين الفعل المباشر للتخلص من “أسامة بن لادن”، وهي في رأيي أول محاولة للتخلص من زعيم القاعدة نفذها مواطن ليبي، لكن غياب “ابن لادن” عن أداء صلاة الجمعة يومذاك في مسجد الحارة الأولى أنقذه من الموت المحقق، لكن جماعة “الخليفي” لاحقته بالبحث إلى مكتبه في شركته ثم إلى منزله وأطلقت زخات من الرصاص أصابت عدداً من مرافقيه لكنه نجا! هذا الأمر يجعل أكثر من علامة استفهام تقفز إلى الذهن، وأكثر من سؤال منها هل توقيت تسريب هذه الوثيقة المزعومة مقصود؟ هل تريد الولايات المتحدة الأمريكية نفي أي اتهامات قد تطالها بتجنيد “الخليفي” ومن معه لتنفيذ عملية اغتيال “ابن لادن” وقتها؟.. ولمصلحة من يتم تسريب مثل هذه الوثائق الآن؟ رغم أننا نعلم من خلال متابعة التحقيقات أن الهدف الأساسي للعملية كان في الظاهر هو الشيخ “أبو زيد محمد حمزة” – رحمه الله – لكنه كان يومها يؤدي فريضة الجمعة في أحد المساجد شرق النيل، لكن التحقيقات كشفت أن الهدف الحقيقي والأساسي للعملية كان هو “أسامة بن لادن” لذلك استمرت هذه العملية لمدة يوم كامل ولم يشارك فيها إلا ثلاثة فقط، بدأوا بالهجوم على مسجد الحارة الأولى بالثورة ثم انتقلوا إلى مقر شركة الهجرة التي يملكها ويديرها “أسامة بن لادن” وعندما لم يجدوه هناك توجهوا نحو مقر سكناه في حي الرياض.
قريبون من ملف العملية وقتها أشاروا إلى تورط أجهزة أمنية أجنبية مع التأكيد على أن قائد العملية “محمد عبد الله عبد الرحمن الخليفي” كان قد قام بعدة رحلات إلى خارج السودان خلال وجوده الذي استمر في الخرطوم لأكثر من عامين.. أما الأغرب من ذلك فإن “أسامة بن لادن” كان يعتقد بأن جهة ما كانت تستهدفه.. ليتنا فتحنا هذا الملف مرة أخرى!
نسأل الله تعالى الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ به من الشر كله، عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.. ونسأله أن يحفظ بلادنا من كل سوء ومكروه وأن يديم علينا الأمن والإيمان والاستقرار وأن يجنبنا كل ما يباعد بين القلوب، وأن يجمع كلمتنا على الحق وأن يطفئ نيران الفتنة وأن يسد منافذ الفوضى.. آمين.
.. و.. جمعة مباركة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية