خربشات
(1)
من طرائف وقصص الصديق “محجوب فضل بدري” إن جعلياً قادماً من أرياف شندي للخرطوم أرغمه فريق العزَّابة الذي حل ضيفاً عندهم وهم من طبقة الموظفين والطلاب الذين يتأوهون مع أنغام وأغنيات الراحل “مصطفى سيد أحمد”.. تم اختيار حفلة ساهرة يغني فيها الراحل “مصطفى” احتفاءً بالجعلي القادم لتوِّه للخرطوم.. تقاطرت حشود المعجبين والمعجبات.. من الشباب والشابات.. في انتظار صعود العندليب “مصطفى” مسرح الغناء لبث الشجن في المكان وتعطير الأمسية بالأنغام والأغنيات الجديدة.. جلس الجعلي في الصف الأول.. يحدِّق في جمال الصبايا من الطالبات والنساء الحرائر اللائي تنبعث من ثيابهن العطور التي تخللت مسامات الجسد المتعب.. صعد “مصطفى سيد أحمد” وسط تصفيق الجمهور وتأوهات الفتيات.. وأخذت الفرقة الموسيقية تعزف الألحان الشجية.. و”مصطفى” يغني (نحن مع الطيور الما بتعرف ليها خرطة ولا في أيدا جواز سفر)، الحضور يتأوهون إعجاباً وسكرة ونشوة، إلا الجعلي الذي كان ينتظر غناء مثل (غرارة العبوس).. أخذ يتلفَّت ذات الشمال واليمين كأنه غريب اليد واللسان.. فالأذن الريفية تعشق.. والأذن الحضرية تعشق.. ولكل أذن أسباب عشقها.. نهض الرجل من مقعده وهو يحمل عصاه.. ربما كانت العصا الوحيدة في ذلك الحفل.. صعد المسرح حتى اقترب من الفنان وأخذ يبشِّر وسط زخم من الشباب.. قال لـ”مصطفى سيد أحمد” حرَّم راجل من شنبك دا، لكن نحن ما معاك في طيورك دي).
(2)
قريباً من أذن الجعلي فإن أغنيات فرقة عقد الجلاد انتشرت في الأوساط الطلابية والمتعلمين والمثقفين من سكان المدن.. وخريجي الجامعات.. وأخذت الفرقة التي ولدت في ثمانينات القرن الماضي على عاتقها التعبير سياسياً عن قوى الرفض.. والمقاومة.. ومناهضة النظام الحاكم الذي لم ينظر إليها بعين السخط.. ولم يمارس بحقها التضييق تركها وفنها.. لأن الشعر والغناء يمثلان على الدوام وثيقة ميلاد الشعوب المعترف بها، وسجل اليوميات الرسمية وأحوال الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان في الزمان السابق المغني والشاعر وحتى الصحافي مثل الوزير الأول الذي يضبط أمور الخلافة ورئيس الأركان الذي يعبئ الجيوش لخوض المعارك والبرلمان الذي يحرِّر شهادة المراقبة والمحاسبة ويطلق يد الرؤساء ليغلون ما شاء لهم بالقانون والدساتير.. والفنان هو الذي يغني لنفسه ولشعبه ويعزف الموسيقى ولحن الموت في وداع الخليفة وفي رثائه.. لم تحرم السلطة عقد الجلاد من حقوقها في التعبير عن ذاتها.. والفرقة التي يتخذها البعض رمزية المقاومة والشرف.. مثلما اتخذ من الراحل “محمد وردي” عنواناً.. ومن “سيف” الجامعة رمزية.. فإن عقد الجلاد التي تغنت في احتفالية الاتحاد الوطني للشباب السوداني بالساحة الخضراء خسرت من جمهورها بعض الذين يعتبرونها رمزية مقاومة ومعارضة و”سيف” مشهور في وجه الحكام.. وكسبت في ذات الوقت قطاعات من الشباب.. وطنيين وإسلاميين ومثقفين من خريجي الجامعات.. هرعوا إلى تلك الساحة الخضراء للاستماع لنمط من الفن لم تألف آذان البعض ترديده.. وكان عصياً على أذانهم الإصغاء إليه.
(3)
واحداً من أعضاء الفرقة السابقين بعد أن خرج من منظومتها لا يزال وصياً عليها.. ويدَّعي “أنور عبد الرحمن” يصف الفرقة بمفارقة خطها الذي ارتضه مع أن “أنور عبد الرحمن” نفسه فارق الفرقة حتى قبل أن تفارق الخط الذي يروق له.. ويقول “أنور” الذي لم يسمع به إلا القليل (هذا الإعلان لا يمثِّلني ولا يمثِّل عقد الجلاد التي أعرف وهذا مني لله والتاريخ) وكتب “أنور” تغريدة يقول فيها: (تسمَّرت عيناي أثناء مطالعة لإعلان الحفل لا يمكن أن تغني الفرقة للحكومة وهي التي ظلت تقف منحازة للشعب السوداني وخريطته الثقافية ولا تساهم في أية أنشطة ديكورية لتجميل هذا النظام).
يتجرَّد “أنور عبد الرحمن” من ثياب المغني والمثقف الفنان ويرتدي قبعة الناشط السياسي.. وعلى خطى “أنور” أعلنت مجموعة أخرى مقاطعتها للحفل الغنائي للفرقة.. تلك من تشظيات الواقع البائس ومحاولات الاستثمار في الفن سياسياً.. من قبل رفع هؤلاء الناشطين رايات المقاطعة لعدد من المطربين، ولكن ذات شعبيتهم وسط قطاعات أخرى، وحينما يغني “عثمان حسين”:
عشقتك وقالوا عشقك حرام
يا مجدِّد نور عيوني ويا مبرِّد نار شجوني
ليتهم عرفوا المحبة وعرفوا أسرار الغرام
فإن كلمات “حسين بازرعة” لم يكتبها لحزن العشاق والعاشقات.. ولم يتغن بها “عثمان حسين” من أجل المناضلين ولا المجاهدين، بل كان يزرع الألفة والحب وسط الناس.. ويبدِّد وحشة الليل بغذاء الروح بالفن والطرب.. مات “عثمان” وكل السودانيين يعشقونه.. ولو اختار درباً سياسياً لخسر البعض وكسب آخرين.. وعقد الجلاد التي ينظر إليها البعض كرمزية للمعارضة والرفض.. ينظر إليها آخرون بعيون لم تغشاها أمراض الشتاء.
(4)
في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي بدأت هجرة المطربين والشعراء والأدباء إلى مصر هروباً من السودان، بعد أن بثت المعارضة دعاية عن النظام المتطرِّف الذي يحكم البلاد وساهم الإعلام الذي تجاوز المعقول في التبشير بثورة التغيير التي تشمل كل مناحي الحياة.. خرج المطربون “وردي” و”الموصلي” و”سيف” الجامعة.. و”عبد الرحمن عبد الله”.. و”كمال ترباس” ولم يبق إلا “عثمان مصطفى” و”حنان النيل” و”قيقم” ومطرب آخر اسمه “شنان” اختفى الآن ما بين الأناشيد الحماسية والعودة للحقيبة، كما فعل “قيقم”، ولكنه فشل في العودة.. ولفظته الحكومة في القاهرة التي كانت ملتقى للأدباء والشعراء، غنى “وردي” للثورة ولأكتوبر الأخضر وأبريل والانتفاضة، ولكن لم تمر سنوات حتى أخذ المطربون في العودة، لأن القاعدة التي يتنفسون من خلالها في أركويت والفاشر وبيت المال والقرير وجوبا وواو والدمازين.. عاد “وردي” بالشوق والحنين واحتضنه “عبد الرحيم محمد حسين” وفي بيت أقرب المسؤولين للرئيس الذي طرب في تلك الأمسية، كما لم يطرب لـ”شنان” وقيقم”.. غنى “وردي”.
يا قلبي أنسى الفات
وعيش من تاني وحداني
لو حنيت لعهد الشوق
أجيب من وين عمر تاني
يا قلبي شفت الويل
وليل السهد بكاني
بعد ما تبت من النار
حرام تتجدَّد أحزاني
يضمك ليل ويطويك ليل
ونار الويل مهادك
يا مظلوم وما ظالم
حليك والعمر فاني..
ذرف “وردي” الدمع يوم عانق قاعدته في قاعة الصداقة وطوى صفحة يسعى البعض لحمل عقد الجلاد للسير عكس الريح.. وركوب قطار تساقط ركابه والترويج لبضاعة نضال كسدت في الأسواق الجديدة.
وكل جمعة والجميع بخير