حوارات

البروف عقيل سوار الدهب مدير مشرحة بشائر لـ(المجهر)

–    قريباً سأحكي أمام القضاء الموقَّر أصعب تشريح في حياتي أرهقني وعجبني
–    التعامل مع الموتى لا يحتمَّل أي فساد أو إغراء مالي أو جهوي أو عنصري  وتمنيت أن لا تسألني هذا السؤال
–    – نعم تعوَّدنا على مناخ المشرحة ولكننا لا نستمتع لرائحة الجثث المتعفِّنة المحتمل
–   
–        نعم احتفظ بأسرار دولة، عائلات وقبائل ولن أبوح بها أبداً
–   
–    أكثر موتى المشرحة قادمون من حوادث المرور (384) هذا العام
حوار – صديق دلاى
 –    × حدِّد لنا خطابك الخاص جداً مع نفسك وأنت ترتدي لباس التشريح ومتقدِّم نحو جثة صامتة؟.
–    –  أتحدَّث مع نفسي أنني قادم على شيء (سره عند الله) وأهيئ من نفسي أنني سأقول قولتي الفاصلة التي تحقق العدالة.
–    × أحياناً يأتيك تلفون من جهات عليا؟.
–    – بكل أمانة، الجهات العدلية والشرطية لا تتدخَّل في عملنا ولا تطلب أي ملاحظة على تقاريرنا، بل هم مثلنا يسعون للحقيقة والقضاء في بلدي نزيه وأنا دائماً أحس بأنني جزء من تلك المنظومة فإن اختلَّ ميزاني ثقل ذنبي أمامهم.
–    × أنا قصدت بالجهات العليا (السياسيين)؟.
–    – هؤلاء لا علاقة لنا بهم.
–    × هل تُصلِّي قبل بداية شغلك العجيب دا؟.
–    – تمنيت أن لا تسألني هذا السؤال.
–    × من أين يأتي أكثر موتى المشرحة؟.
–    – من حوادث المرور وفي هذا العام  بلغ العدد (384) منهم (224) ذكراً، و(95) أنثى، ومنهم (65) طفلاً.
–    × هيبة المكان (المشرحة) أرهقتني جداً؟.
–    – ليس وحدك.
–    × التعامل مع الموتى مع طول الزمن  يفرز حياة معيِّنة؟.
–    – التعامل مع الموتى لا يحتمل أي فساد أو إغراء مالي أو جهوي أو عنصري  أو تزييف من أي نوع كان.
–    × تقصد كل المنظومة العدلية؟.
–    – المنظومة في نظري جواهر متلألئة،  عرفوا قيمة المكان وباعوا الدنيا وهم يتنسَّمون “الحانوط” كل يوم وهو العطر المفضَّل عندنا بحكم الوفرة والمناخ وقدر الشغل.
–    × سمعنا أن المشرحة تستلم رسوماً لاستلام الجثمان بعد تشريحه؟.
–    – نحن لا نطلب مالاً من ميت ودا مستحيل، والمكان الوحيد الذي لا يطلب فيه أموال من الزائر هو مشرحة بشائر.
–    × مسألة المرحومة “أديبة فاروق” ملأت الدنيا وشغلت الناس؟.
–    – نعم، صارت مسألة (رأي عام).
–    × نحكي؟.
–    – كل شيء أمام العدالة.
–    × التشريح مش أنت من قام بالتشريح؟.
–    – نعم، وسلَّمت تقريري بمظروف أحمر وخاص جداً للجهات العدلية.
–    × وبعدين؟.
–    – لا بعدين ولا قبلين، ولن أتحدَّث أبداً في هذا الأمر (على الأقل حالياً).
–    × أنت قمت بتشريحها وكل السودان يعلم لك؟.
–    – نعم، وأترحَّم عليها يومياً وقمت بتسليم تقريري للنيابة العامة ولن أتحدَّث في هذا الأمر.
–    × هل صحيح تم نبش قبرها لاحقاً؟.
–    – قلت لك أقفل هذا الملف.
–    × نحكي عن شيء أخر؟.
–    – جداً.
–    هناك فعلاً قضايا حسَّاسة؟.
–    – أنا، الأشياء بالنسبة لي لها حسابات خاصة في جميع الأحوال وأتعامل معها وفقاً لقيم محدَّدة ومفرداتي ناصعة البياض ودائماً سليمة من اللبس والتردد والغموض، وأذكرك حدثاً أتمنى أن يكون إرثاً لأبنائي في هذا المجال.
–    × نحكي؟.
–    – قبل أسبوعين اتصل بي سيادة القاضي مولانا “كامل رمضان فرج الله” قاضي المحكمة العامة، وذكر لي أنه قادم لي لمكتبي لإجراءات قضائية مهمة تخص محكمة خارج الخرطوم وإفادتي هي الأهم، فقلت له: سأحضر لك الآن، حيث تريد، ولكنه رفض وعقد المحكمة في مكتبي، وأرسل المحامون أسئلتهم وأرسل القاضي أسئلته والمتحري وتم استجوابي.
–    × (دا تقدير)؟.
–    – منتهى التقدير وفيها سابقة قضائية فيها تكريم للطبيب الشرعي والسبب هو الأداء (النضيف) وستكون دائماً الجهات العدلية تقدِّرك وتحترمك، لأنك وفي مسار طويل ومختلف حققت معها ميزان العدالة.
–    × وقضية “أديبة” ممنوع السؤال فيها؟.
–    – بالضبط لاعتبارات عدلية (لسه) الوقت مُبكِّر على الكلام).
–    × عما وجدته في التشريح (على الأقل)؟.
–    – الله يهديك أتحرَّك شوية وأنا سلَّمت كل شيء في تقريري بطرف النيابة.
–    × المفروض الطبيب الشرعي يكون محمي بمرتب كافٍ يحميه من الإغراءات المالية؟.
–    – (طبعاً).
–    × لسه بتأكل الزبادي جنب المشرحة؟.
–    – والبنزِّلوا في (المنهولات) برضو بيغسَّلوا أياديهم ويأكلوا نفس الزبادي، والأطباء في الحوادث يواجهون أصعب المناظر ويأكلون الطعام.
–    × سمعنا أن أفظع ريحة هي ريحة الإنسان ميِّتاً لعدة أيام؟.
–    – إلا عندما تتحلَّل الجثة (دا ممكن).
–    × تعودتم؟.
–    – ولكن ليس لدرجة استمتع لرائحة الجثث المتعفِّنة.
–    × أهمية التحري؟.
–    – عالية جداً وتحتاج لذكاء وخبرة، مثلاً هناك تغيُّرات حديثة نربطها مع أدلة أخرى لتستبين الخيوط الأولى لفهم المُجرم ومرات وجود حشرات معيَّنة تفيد بمعلومات إضافية.
–    × هناك علم الحشرات؟.
–    – ودا علم راقٍ ويوفِّر كثير من الدلائل حتى العناكب، ووجودها داخل القبور ومدَّتها داخل القبر.
–    × وأسرار الموتى؟.
–    – حركات الإنسان وهو ميِّت تبقى كما هي، لو مات ورجله مرفوعة تبقى كما هي، أو مات منحني أو رافع يديه وتلك لها أهمية في التقرير.
–    × الموت في سلام؟.
–    – (دا موجود والحمدلله)
–    × في وجوه مبتسمة؟.
–    – طبعاً.
–    × موظفو المشرحة والسكرتيرات الأنيقات هل تعاملوا مع عالم المشرحة كما ينبغي؟.
–    – المشرحة دي عندها كلام عجيب وهي تحتضن من تحتضن وتلفظ من تلفظ وأي زول ترفضوا طوالي بقدر كدا بيمشي منها.
–    × مثلاً؟.
–    – لا لا لا.
–    × بداخلك صوفية ما؟.
–    – وستظل موجودة بإذن الله ليوم القيامة، وذات يوم جابت الأقدار أبونا الشيخ “البرعي” للمشرحة لمتوفى يخصه فطلب منا عدم تشريحه، فقلت له أنه أمر نيابي لا طاقة لنا فيه، فوافق، ولكن حضرت الموافقة بسرعة بعدم تشريحه فجهَّزناه له ثم مضى بأدبه الجم.
–    × ماذا قال لك تحديداً وهو يطلب منك عدم تشريح الجثة؟.
–    – قال لي يا ولدي دا موت واضح وشافوه الناس كلهم.
–    × وافقوا إكراماً له؟.
–    – نعم، أي والله.
–    × لماذا قصة التشريح، لأي جثة يعتبر عيباً يتجنبه الأهل (أهل المتوفي)غالباً؟.
–    – بسبب الشكوك والأسئلة والإشارات أن هناك جريمة (لو حصل النبش).
–    × وهو عيب اجتماعي؟.
–    – نعم، لأنه يصاحبه دليل شبه ومزعج للأهل، سيما حينما تكون بنت ماتت بالصبغة أو ولد مات بالخنق وكثير ما يكون هناك شيء مختفي من الأسرة كأن البنت كانت حبلى مثلاً وهناك المخدِّرات والعقاقير والكحول والتسمُّم.
–    × هناك مفاجآت للجميع؟.
–    – نعم، خاصة في حوادث المرور، تكون هناك فتاة راكبة مع رجل غريب فيموت الاثنان في الحادث ويكتشف الطرفان مفاجأة واحدة، ولذلك أنا ضد (يا عم).
–    × كيف تعلِّق على العادة الجديدة (سليفي مع المرحوم)؟.
–    – دا عدم احترام يشير لدواهي أخريات (دي مأساة كبرى في مجتمعنا) والموت قريب من كل الناس.
–    × فيما تفكِّر هذه الأيام؟.
–    – في القبور بإعادة بنائها ونبعدها عن العاصمة قليلاً ونعمل فيها استقبال راقي ومظلات ومساجد حتى لا ندفن من لا نعلم عنه شيئاً ويجب أن يكون ترقيم القبور بالقانون ولازم تكون راقية وجميلة و(نضيفة).
–    × ومقابر اليهود والمسيحيين؟.
–    –  للمسلمين والمسيحيين وحتى الذين يحرقون جثث موتاهم لابد أن نهيئ لهم محارق.
–    ×(دا عالم أرحل)؟.
–    – قلت لك أنا أحب هذه الكلمة، لأنها وافية وشاملة، الملوك والأمراء والرؤساء وهو رحيل طويل لا علاقة له بالدستور ولا البرلمانات ولا 2020  ولا أمة ولا اتحادي ولا بعثي ولا شيوعي.
–    × حاسم؟.
–    – حاسم وجازم.
–    × متى تفهم أن وراء هذا الجثمان جريمة؟.
–    – من أول لحظة وتلك موهبة علَّمني لها الله الرحمن الرحيم، ومن ثم التحري والنيابة الموقَّرة تكمل إحساسي.
–    × هل تتكلم مع الموتى في المشرحة (أحياناً)؟.
–    – أتكلَّم مع الجثث أحياناً، ولكن بحضور الناس.
–    × أصعب وقت؟.
–    – مع تشريح الأطفال و”مرام” و”شيماء” هما الأصعب في كل حياتي المهنية، واعتقد أن شاعر القصيدة (مرام) بالغ في دقة التصوير للمأساة وتعبِّر عن صميم قصة الجريمة الشنعاء وفي مؤتمر الطب الشرعي المنعقد بالسعودية خاطبت بها المؤتمر وبكوا كلهم وقلت لهم إن “مرام” صارت أغنية أطفال السودان.
–    ومن المحتمل قريباً أن أتفرَّد بأن أحكي أمام القضاء الموقَّر أصعب تشريح في حياتي أرهقني وعجبني.
–    × “مرام” و”شيماء” كانتا مأساة؟.
–    – مأساة حقيقية، واعتقد بضرورة عن الكشف للأطفال الأحياء والأموات، وهناك تستُّر كبير على اغتصابات مؤلمة لن يردعها إلا القانون الحاسم القتل في ميدان عام.
–    ×أحياناً الأطباء يرفضون الكشف بدواعي قانونية؟.
–    – أتمنى من الأطباء أن لا يرفضوا، لأن القانون معهم.
–    × المسكوت عنه كبير؟.
–    – ومذهل ومؤلم ويحتاج لوقفة من الدولة والمجتمع.
–    × حينما تبدأ في كتابة تقريرك ينتظرك القضاة؟.
–    – حينما أبدأ في كتابة تقريري لا أخشى إلا الله سبحانه وتعالى وأنفي يدق السماء عزة وكرامة وأتباهى بمهنية تقاريري مدى عمري.
–    × بكلام الأخ “مزمل” المشرحة ليست مثالية؟.
–    – بل، المشرحة مثالية وصارت مؤسسة كبيرة، معاهد وعلوم متكاملة.
–    × فصل النيابة قرار مريح بالنسبة لكم؟.
–    – قمة الديمقراطية وهو قرار مريح للعدالة والنيابة هي المسؤولة عن التشريح.
–    × متى يكون الجثمان مزعج لبروف “عقيل”؟.
–    – حينما تكون الأيادي كثيرة والأسئلة ويتدخَّل الرأي العام الضاغط ودائماً هنا أتحرى الدقة أكثر من اللازم.
–    × لابد أن تتذكَّر (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)؟.
–    – ومعها أقول مثل ما قال عبود للشعب السوداني(احكموا علينا بأعمالنا).
–    × مطمئن جداً؟.
–    – في حياتي يا “دلاي” لم يرجع لي تقرير (صَابي موية) وفي تاريخي التشريحي لم يشتكيني أحد لعلة في تقريري ولم يرجع لي أي قاضٍ أي تقرير.
–    × قضية أرهقتك جداً؟.
–    – قضايا كثيرة لا تحصى ولا تعد ودائماً قضايا النبش هي الأهم، لأن النبش   وهو علم خاص ومتفرِّد ويتطلَّب خبرة عالية ودقة متناهية.
–    × ومصائب الموتى كثيرة؟.
–    – نعم، الموت الذي تفرون منه مدرككم ولو كنتم في بروج مشيِّدة.
–    × عندك ملفات بعيدة عنا كصحفيين؟.
–    – طبعاً دي موجودة وتحديداً عند الدولة، وهناك أسرار يعجز عنها اللسان وثمة جرائم غامضة تحفظت عليها الدولة وبقيت بحوزتها وتلك أسرار ليست للجرايد ولا للرأي العام وبصمتها موجودة في سويداء النفس إلا بأمر عدلي وقضائي في إطار التخصص العام.
–    × أي نوع من تلك الأسرار محتفظ بها في سويداء النفس؟.
–    – أسرار دولة وأسرار عائلات وقبائل.
–    × كما حصل؟.
–    – أسكت يا “دلاي”.
–    × علاقتكم بالأمن والمخابرات؟.
–    – علاقة عادية جداً وفي إطار القانون.
–    × تبدو وكأنك مودِّعاً المشرحة، هل هناك من يضايقك؟.
–    – محبة الناس تكفيني.
–    × معناها تنوي الرحيل من المشرحة ربما لخارج البلاد (لسبب ما)؟.
–    – قلت لك أنا لا أخاف أحد والرحيل سنة الحياة.
–    × أين تريد أن تختم حياتك؟.
–    – جنب قبر المصطفى (صلى الله عليه وسلم) أخدمه من قريب (أريد أن أنهي حياتي هناك).
–    × جئت خليفة المُشرِّح الكبير دكتور “الكوباني” فمن خليفة “عقيل”؟.
–    – دكتور “صابر مكي حسن” هو خليفتي، وكأنه قد حقق (الحوار الغلب شيخو).
–    × هل ستشكر وزارة الصحة الولائية في بيان؟.
–    – بل، أشكر إخواني الذين رافقوني (20) عاماً، كبير الفنيين “أسامة سعد الدين”، “صلاح”، “وليد رسمي”، “عبد الباقي”، “عبد الله آدم” و”عمران”.
–    × وأخيراً؟.
–    – أخيراً أنا أخذت الزمالة الأكاديمية الطبية الشرعية الرومانية والمالديفية والأطباء الشرعيين المصريين وديل أنا نقيبهم حالياً.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية