بعد ومسافة
كنز ثمين تحت ثرى مقابر حمد النيل
مصطفى أبو العزائم
لما اتصل عليَّ الأستاذ “أسامة حسن شريف” الإذاعي المتمكِّن وأحد قيادات الإذاعة السودانية صباح أمس، لينقل إليَّ نبأ وفاة (دكشنري) الغناء السوداني الفنان “علي مصطفى” ما كان يدري أنني علمت بالخبر باكراً، وقد ترحمت على الراحل المقيم الفنان “علي مصطفى” (الدكشنري) الذي ختم حفله الدنيوي فجأة – هكذا – دون مقدِّمات، وهو الذي كان مفعماً بالصحة والحيوية ويضج بالنشاط ويمتلئ بالحياة مثلما يمتلئ بالمعارف الفنية وتاريخ الغناء في السودان.
مات الفنان “علي مصطفى” (الدكشنري)، وقد عرفته منذ سنوات طويلة، حتى قبل أن يجد حظه من الشهرة الواسعة، والتي أرى أنها قد تأخرت بالنسبة له كثيراً، رغم أن المهتمين بأمر الغناء في السودان يعرفون قدر هذا الرجل وقدراته، وما يتمتع به من ذاكرة أرشيفية فوتوغرافية عجيبة، وقد شاهدته أول مرة أواخر العهد المايوي داخل وزارة الثقافة والإعلام قبل أن تنفصل إلى وزارتين، وكان ممن يعرفون قدرة السيد الوالد الأستاذ “محمود أبو العزائم” – رحمه الله – وأستاذنا وأستاذ الأجيال البروفيسور “علي شمو” وكثيرون ممن هم حوله، لكن لمعان نجم الفنان “علي مصطفى” وبدايات شهرته على المستوى العام كانت بعد رحيل بلبل الحقيبة الصداح الفنان الراحل “بادي محمد الطيب” عام 2007م، وذلك من خلال برنامج تلفزيوني، قدَّمها صديقنا الراحل الأستاذ “صلاح طه” – رحمهم الله جميعاً – وقد أدهش الفنان “علي مصطفى” كل الذين تابعوا تلك الحلقة بمعلوماته الثرة وذاكرته الحية، وحسمه الجاد لكل ما هو مختلف عليه حول غناء الحقيبة، وأوله متى بدأت أغنيات الحقيبة بمعناها وصورتها وأدائها المتعارف عليه، إذ تناقل الناس معلومات كثيرة بعضها أنها بدأت في حفل زواج رجل الأعمال والتاجر الأم درماني المعروف الراحل “بشير الشيخ” وهذا متفق عليه، لكن الاختلاف كان في تاريخ البداية هل هي عام 1919م، أم عام 1921م، أم في عام 1923م، عندما امتنع الطنابرة عن مرافقة الفنان “محمد أحمد سرور” الذي لم يكترث بذلك الإضراب، فاتخذ من زميله الفنان الأمين برهان صاحب الصوت المتميِّز (فردة) له وأطلق لحنجرته العنان، وتغنى بداية بـ(رمية) دخلت تاريخ الغناء السوداني من أعظم الحناجر، هي رمية (الطابق البوخة) لشاعرنا الضخم المهول “إبراهيم العبادي” في تلك الحقبة التلفزيونية – عرف الناس كنزاً فنياً ثمين المحتوى اسمه “علي مصطفى” (الدكشنري) ولقبه ذاك كان أول من منحه له هو الفنان الشعبي “القلع عبد الحفيظ” وهذه للحقيقة والتاريخ، وهي معلومة استمعت إليها منه شخصياً، وقد ذكرها في إحدى حلقات البرنامج الإذاعي الممتع (أولاد فلان) الذي كان يقدِّمه الأستاذ “الطيب قسم السيد” في الإذاعة السودانية، وقد أعيدت تلك الحلقة صباح أمس، وكان ضيوفها البروفيسور الفنان “عثمان مصطفى” والأستاذ الإذاعي “جمال الدين مصطفى” والفنان الموثِّق “علي مصطفى” (الدكشنري)، وهو قد لُقِّب بألقاب عديدة منها الكتاب الأخضر، والكتاب الأصفر وغيرها، ولكن لم يبق من كل ذلك سوى (الدكشنري) وهي بالقطع (القاموس).
بالأمس، وعند الثامنة صباحاً تم لحد جثمان الفقيد الكبير الراحل “علي مصطفى” (الدكشنري) بمقابر الشيخ حمد النيل في غرب أم درمان، ليضم قبره ذاك كنزاً ثميناً من المعارف الفنية لرجل بدأ حياته مطرباً يقاسم الفنان “خلف الله عبد الله قاقرين” الأداء والغناء باسم (ثنائي أم در) وانتهى به الحال ليصبح أحد رواد هذا الفن المسمى بـ(الحقيبة)، بل بكل أنواع الغناء الشعبي، ويصبح عضواً مؤثراً وفاعلاً باتحاد فن الغناء الشعبي، حتى أنني عندما يحار بي الدليل في معلومة ما، كنت ألجأ إليه من خلال هاتفه المحمول لأعرف واستوثق – رحمه الله -.
وقد عرفنا منه _ لأول مرة – أن السيد الإمام “عبد الرحمن المهدي” كان قد جمع الشعراء والفنانين الذين عرفوا لاحقاً باسم شعراء ومطربي الحقيبة، جمعهم عام 1936م، في سرايا السيد “عبد الرحمن” بأم درمان وكوَّن لهم جمعية عرفت باسم جمعية ترقية الأغاني، وفي ظني وظن الكثيرين أنها أول نواة لاتحاد فني يجمع الشعراء والمطربين. الكتابة عن الراحل المقيم “علي مصطفى” (الدكشنري) تحتاج إلى صفحات وصفحات وهو نفسه محل بحث ودراسة وتوثيق لكل من أراد الاهتمام بأمر الغناء في السودان.
رحم الله الفنان الباحث المؤدي والموثِّق والمطرب “علي مصطفى” (الدكشنري) الذي رحل عن دنيانا بالأمس، وألهمنا وأهله الصبر والسلوان ونسأل الله أن يغفر له وأن يرحمه وأن يعفو عنه وأن يجعل الجنة مثواه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)