أخبار

خربشات

(1)
قبل أكثر من نصف قرن من الزمان ثارت الخرطوم في ليل الدجى وخرجت الجماهير الهادرة مدفوعة بعاطفة اشتعال الحرب في ثياب الوطن الجنوبية.. واقتلعت أول نظام حكم عسكري سطا على الحكم بعد عامين فقط من نيل البلاد لاستقلالها.. والحقيقة حكومة “عبود” لم تسقط لأنها لم تقاوم التظاهرات الشعبية، ولكنها قررت التنحي عن السلطة بعد أن حدثها ضميرها بأن مطالب الشعب فوق طموحات ورغبات جيش الشعب.. ومنذ تلك الأيام التي تمر ذكرها في مثل هذه الأيام والصحافة تنشر أدب المقاومة وأدب تمجيد تظاهرات الشعب وتمني بعض النخب نفسها بأن يعيد التاريخ نفسه ويخرج أحفاد ثوار أكتوبر للشوارع مرة أخرى.. ولكن هؤلاء يجهلون التغيير في منهج التفكير والتغيير في طرق التعبير.. إذا كان “القرشي” الذي كان يحمل (بشكيره) داخل داخلية.. بجامعة الخرطوم قد انتاشته رصاصة عابرة لم تصوب له أصلاً وأردته قتيلاً.. وبات “القرشي” (أيقونة) الثورة ورمزيتها فإن من بعده سقط العشرات من الضحايا في مختلف ساحات الاحتجاجات بنجوع الوطن.. من رفع السلاح في الأطراف ومنهم من رفض زيارات الوفود كما في أحداث سبتمبر ومنهم من قتل بين ركام منزله الذي هددته آليات مكافحة السكن العشوائي.. وأكتوبر التي هب شعب السودان في الحادي والعشرين من أربعة وستين وتسعمائة وألف، ما كانت أول ثورة ربيع في السودان.. سبقتها ثورات مثل ثورة “علي عبد اللطيف” في أم درمان وهي في الواقع تمرد عسكري من نظاميين ساءهم ممارسات الأجنبي.. وثورة سلطان النوبة الميراوي وثورة السحيني في نيالا.. وثورة “عبد القادر ود حبوبة” في الجزيرة.. وكانت أكتوبر فجراً أطل بعد ليل طويل كما زعم “صلاح أحمد إبراهيم”..
(2)
سهرت وحدي شاخصاً معذباً
وليلتي صارت على ليلتين
وقربي المذياع صامت يضن بالنبأ
وفوقي النجوم في وجوهها وجوم
يا ليتني هناك بين قومي الأباه لا مغترباً
تنزف مني قرحة الهتاف في الحلقوم
تمحلني الأسود كفناً مخضباً
أورث مثل بردة النبي في العرين..
ولأن ميلاد أكتوبر قد فجر ينابيع الشعر العذب في شرايين الخرطوم التي لم تصب بالتكلس ولا الدماء تخثرت فيها كما هي الآن.. وكان للشعر في أكتوبر أثره.. وصيته وصوته.. ولم يكن حينذاك أعذب الشعر أكذبه.. بل كان أعذب القصائد أصدقها في التحريض على التغيير.. ولأن جنوب السودان كان “ملوال”.. وكان “بوث ديو”.. وكان الفيدرالية و”جوزيف قرنق”.. رفض النخب الشماليين عزم النخبة العسكرية الحاكمة أن تحمل الشعب على حلول تراها سهلة.. ويراها الشعب باهظة الثمن والتكاليف بأن يجعل الرصاص الأخرس هو (الدواية) لجز أعناق الثوار الجنوبيين.. وقد كانت مطالبهم نظام حكم فيدرالي يحكم فيه أهل الجنوب أنفسهم تحت مظلة مجلس السيادة أو مجلس قيادة الثورة أو أي مُسمى تأتي به النخب الحاكمة بالشمال.. ولكن ولاة الأمر فينا وليس ولاة الأمر منا.. كانوا يعتقدون أن الفيدرالية من المحرمات اللاتي يذهب بالأطهار من قادة البلاد إلى جهتهم السياسية وإن هؤلاء الجنوبيين المحرضين من أعداء الدين والوطن لا يستحقون حكماً فيدرالياً.. فثارت النخبة من أساتذة وطلاب جامعة الخرطوم في وجه العسكر الوطنيين.. وارتفعت رايات السلام مطالبة بوقف الحرب وعودة الديمقراطية، وقد اختلف أباء أكتوبر حول أمها ولم يختلفوا من أبوها (الشعب) وكل حزب حدث نفسه الأمارة بالسُلطة بأن أكتوبر خرجت من داره.. “الترابي” كان ثائراً.. و”عبد الخالق محجوب” كان خطيباً و”المحجوب” كان أديباً.. وكانت أشعار اليسار تخرج طازجة مثل الرغيف البلدي من مخبز قمبور بحي القبة بالأبيض و”عمر الدوش” يجعل من الثورات في أبريل يتطلع مثل أكتوبر وكلاهما ثورات للسلام في واجهة البندقية الخرساء.
بتطلعي أنت من غابات
ومن وديان مني أنا..
من صحية جروف النيل
مع الموجة الصباحية
من شهقات زهور عطشانة
فوق أحزانها متكية..
بتطلعي أنت من صوت طفلة
وسط اللمة منسية..
(3)
كانت أكتوبر دموع حزانى على الموت في الجنوب.. وما كانت ثورة جياع مثل أبريل ولا ثورة احتجاجات على الخبز والبنزين.. ورغم ذلك حينما انصرف عسكر نوفمبر من الحكم وتوالت على البلاد النكبات والخيبات والصراعات والفشل، ولم يذهب قادة نوفمبر إلى غياهب السجون أو مقاصل الإعدام ومشانق كوبر.. لأنهم لم يقتلوا إلا عدداً قليلاً من المتمردين الجنوبيين.. ولم يزرعوا أحقاداً وسط الشعب، عادت النخبة العسكرية إلى الأسواق والمقاهي وبيوت الأفراح والأتراح.. وفي يوم ما.. جاء “عبود” لسوق الخضار بمدينة بحري.. وما إن تجمع الناس حوله حتى خرجت الهتافات البريئة (ضيعناك وضعنا وراك) وابتسم “عبود” في وجه المتظاهرين.. ولم ترعبه أجسادهم المتعبة وجباههم المعروقة، ولكن حاكماً جاء بعد “عبود” حمل السودان على المشقة في العيش.. وانهال على جماجم المخالفين بالرأي تكسيراً وتحطيماً.. ولما.. أزاحته انتفاضة رجب/ أبريل من الحكم.. كان “جعفر نميري” مرعوباً حتى من كلمات لشاعر من غمار اليسار العريض “فضيلي جماع” كتب يرثي أنصارياً من نجوع تقلي اسمه “عباس برشم” قتله الـ”نميري” حينما أراد قتل مايو..
حبلى بالثأر رأيتك ذاك الفجر
من صمتك ننسج رحلتنا
نحو التاريخ
ومن كوكبة الشهداء
سنوقد ست شموع أخرى
سنركض صوبك حين تنادينا للمجد
لأنك رغم رصاص الغدر
ورغم المشي على الرمضاء
وفوق الجمر يفوق جمالك حد الوصف
كانت أكتوبر في مثل هذه الأيام قبل أكثر من نصف قرن من الزمان محاولة لإقامة الدولة المدينة الثانية بعد دولة الخليفة “ود عبد الله” “تورشين”.. لكن أكتوبر فشلت في إرساء قواعد الحكم المدني.. وفشلت في جعل الديمقراطية نظاماً يحكم بلادنا.. وتوالت من بعد أكتوبر على شعبنا الهزائم والانكسارات والفشل وحصاد الندم.. ولا تزال ذات القضايا التي أثيرت في الساحة السياسية بعد أكتوبر هي القضايا التي تثار الآن، هل الطريق للرفاهية يبدأ بالسلام؟ أم بالديمقراطية؟ وهل السلام قبل الديمقراطية؟ أم الديمقراطية شرط وجوب لتحقيق السلام؟ حينما كانت أكتوبر.. لم تنجرح دارفور بنصل سكين حادة.. ولم تفقد جبال النوبة وقارها.. وتخرج علينا بالإعلان البائس حق تقرير المصير.. آخر الزمان النوبة الذين هم ملاك السودان وأصحاب شهادة بحثه الأصلية يطالبون بحق تقرير المصير؟ كيف ذلك ولماذ؟ في أكتوبر نستعيد الذكريات ونغني الأغنيات.. ونمني النفس الأماني.. ولكن تبقى حقائق الواقع شاخصة نحن شعب لا يحترم تاريخه ولا يقرأ دفتر كتابات الأمس حتى يستعد لغده.
كل أكتوبر والجميع بخير

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية