مسامرات
التعصب
محمد إبراهيم الحاج
{ يتحول الخبر الذي أوردته الزميلة (التيار) أمس عن اعتداء متطرفين على مطرب بعد خروجه من أحد المساجد، مع أحداث أخرى يمكن قراءتها مع هذا الخبر، إلى ظاهرة خطيرة تهدد النسيج المجتمعي السوداني المعروف ببعده عن مثل هذه السلوكيات الإقصائية سوى من بعض الأحداث المتفرقة.
{ سبق أن قام إمام مسجد بمنع أحد الفنانين الشباب من الصلاة في الصفوف الأمامية.. وهو بهذا يضع دون وعي منه رجال الدين والدعاة في خانة المواجهة مع الفنانين بجميع ألوان طيف إبداعهم.
{ قلت من قبل إن نيران التعصب تبدأ بأحداث صغيرة ثم تتسع لتلتهم كثير من القيم.. وللأسف لا يقتصر هذا الأمر على العلاقة المتشابكة والنظرة المريبة بين الفنانين ورجال الدين، لكن يتعداها إلى أبعد من ذلك.
{ أحداث سياسية ورياضية وفنية ومجالات أخرى.. ثمة خيط قوي متين الأجزاء يربط بينها.. خيط مؤسف (فُتل) بحنكة على (نار) هادئة مدت ألسنتها والتهمت كثيراً مما كنا نُعرف به من (تسامح) أو هكذا خُيل لنا.
{ (الخيط المؤسف) الذي أعنيه هو (التعصب) ورفض الآخر الذي ساهم بعض الإعلام غير الرشيد للأسف في إذكاء (نيرانه)، وفي تغذية روح الكراهية بشكل يدعو للاستغراب من مجتمع عُرفت عنه إجادته حياكة العلاقات الإنسانية المؤثرة بين أفراده.
{ بعض أئمة المساجد المتطرفين كان لهم قدر وافر في إذكاء نيران الكراهية تجاه فئة مؤثرة جداً في المجتمع وهي فئة الفنانين.
{ لا يمر أسبوع واحد حتى يفاجئنا أحد الأئمة بتعبئة خياشيمه من الهواء و(زفره) كراهية لقبيلة الفنانين من أعلى منبره الذي يقصده كل الناس بعد أن يسكب على أسماعهم ديباجات (جاهزة) و(محفوظة) على شاكلة (فاسقين) و(فاسدين)، وأنهم السبب في تفشي (الرذيلة)، والسبب في إفساد أذواق الشباب.
{ نيران التعصب تبدأ (شرارة) صغيرة عبر (نكتة)، أو (مقال)، أو (موقف ساخر)، أو (إشارة غير ذكية)، أو مباراة في (كرة قدم) نجمت عنها تفلتات من (مشجع متعصب)، فتمددت (ألسنة لهب) التعصب لتصير (شوطة) و(ظاهرة) شبه عامة تمد لسانها هازئة بما عرف الناس من تسامح اجتماعي وثقافي.
{ ديباجات جاهزة في العرف السياسي بأن ينعت السياسي الآخر الذي يخالفه الرأي بـ(المرتزق) و(صاحب الأجندة الخارجية) و(العميل) و(الانتهازي)، وهي مصطلحات معبأة ببارود الفتنة الذي يشتعل عند أقرب الفرص التي تسنح له.
{ (التعصب) الإثني والعرقي ورفض ثقافة الآخر هو ما قاد السودان إلى أن يصبح دولتين منفصلتين، يرمق شمالها جنوبها بأعين حذرة ومتوترة، ويرى جنوبها شمالها انتهازياً ولا يحترم الآخر.
{ نعم.. هو الرفض للآخر ما أذكى نيران التعصب لدى الشخص البسيط الذي يرى في رجل الدين القدوة الصالحة، ويرى فيه متحدثاً باسم الدين، ويرى أن ما ينطق به هو أمر من الدين، لذا لم يكن غريباً أن (تكوّنت) في ذهنه فكرة سالبة تجاه أولئك الفنانين تتصاعد إلى أن تصبح (موقفاً) متعصباً ضد صناع الجمال والحق بالبلاد.
{ الأمر لم يتوقف عند هذا الحد فحسب، لكن تعداه إلى أبعد من ذلك، إلى أن وصل التعصب حتى رجال الدين فيما بينهم، فكل صاحب طريقة يرى أن طريقته هي (الصاح المطلق)، وأن ما سواه لا يعدو سوى أن يكون (خارجاً عن الملة) أو (زنديقاً) وجب جز رأسه جزاءً لما اقترفه عقله في التفكير.
{ اجتماعياً يرفض الأب تقليعات الابن لأنها لا تتوافق مع ما اعتنقه من تقاليد عبر عقود طويلة، ولهذا لا يفتأ ينعته بـ(قليل الأدب) و(قليل الرباية).. حتى المثقفين أنفسهم لا يجدون أوصافاً للجيل الجديد سوى نعتهم بـ(المتغربين) و(المستلبين ثقافياً) دون أن يكلفوا عقولهم عناء البحث عما حشد أدمغتهم بما يرفضون.
} مسامرة أخيرة
{ افتحوا عقولكم وأفئدتكم للآخرين.. فإن لم تقنعوهم.. فلن تخسروهم.