الموسيقار "إسماعيل عبد المعين" .. من يشتري أغنيات (المساعدية) و(الحكَّامات)؟!
لم تك “فاطنة فور” تدري أن حفيدها الطفل “إسماعيل” يختزن أغانيها و”أحاجيها” ليعيد ترتيبها ونظمها وإنتاجها، فيصبح بفضلها و(جهوده) رقماً وركناً ركيناً في مسار الغناء والموسيقى السودانية ومسارب ألحانها وإيقاعاتها.. فمن (الحكّامات) و(مساعدية اللواري) أدخل عبد المعين (التم تم).. واللحن الخفيف والمقدمة الموسيقية، وتوظيف المارشات في الغناء والموسيقى، فلحن وغنى للصاغ “محمود أبوبكر”:
صه يا كنار وضع يمينك في يدي
ودع المزاح لـذي الطـلاقة والـدد
ولمؤتمر الخريجين نشيد (للعلا) من كلمات “خضر حمد”، وكان أول عمل سوداني لُحن على ايقاع (المارش).. وأحدث انسراب (التم تم) في جسد الحقيبة (نقلة كبرى) في مسيرة الغناء السوداني، وربما فرحت وزغردت جدته “فاطنة فور” لنجابة حفيدها الذي حقن بإيقاعات (تم تم) وغناء (المساعدية) أوردة الحقيبة..
وبث عبد المعين ألحانه.. من أقاصي الشمال إلى أقاصي الغرب.. والجنوب وإيقاعات الشرق، فأخذ من الحكامتين “أم بشاير” و”أم جباير” بكوستي ما استطاع من إيقاع الدلوكة، ليوظفه في حداثة غناء العواصم، واستخدم الأهازيج الشعبية ليصنع منها غناءً يمشي بين الناس، يحبونه ويتداولونه غناءً كالذهب لا يصدأ، فمن منا لم يستمع لخليل اسماعيل ويطرب معه في: (يوم بيوم نبيع الكُمبا)؟
(2)
لم يخب ظن “خليل أفندي فرح” عندما أوعز لـ “إسماعيل” بالسفر إلى مصر لدراسة الموسيقى، وكان له ذلك عام 1937م، حيث درس في معهد (فؤاد الأول)، وأجاد فنون الموسيقى الشرقية، ثم رحل إلى فرنسا، وعمل عازفاً في نادي ليلي تديره راقصة جزائرية، وتعرف هنالك على كثير من الثوار الجزائريين.
وعاد “عبد المعين” من رحلته تلك بذخيرة لا تنضب، واجترح ما عرف بموسيقى (الزنجران)، وعمل “عبد المعين” على إيجاد صيغة توفيقية بين الخماسي والسباعي واجتهد بجد على (حل وسط) فاقترح ما سمّاه بـ (تسديس الموسيقى).. أو (تسديس الخماسي)!.
جرأة “عبد المعين” تجلت في استفادته من كل ذلك الزخم والتنوع وكان يمتلك وجداناً ثراً وحساً كـ (رقبة بعير) يتطاول ليرى ما لا يراه غيره!
(3)
ود الشريف رايو كمل
جيبو لي شلايتو من دار قمر
يقول “عبد المعين” إن لحن (عزة) مأخوذ من هذه الجلالة القديمة التي كانت متداولة في ديار قبيلة القمر بغرب السودان، ولم يكتف (الباحث) في دهاليز وأضابير التراث بذلك، بل ذهب بعيداً حين قال إن أغنية العميد أحمد المصطفى (حياتي) أُخذ لحنها من مونولوج شعبي شهير:
حماتي حماتي
يا أخت القرنتي
وشك إنت
محتاج لجونتي
جرى منو البعاتي
(4)
لم يقف “اسماعيل عبد المعين” عند (صه يا كنار) و( يا حنوني) وأغنيات (الزنجران) التي من أشهرها:
بنات الريل الظراف
نايرات الخدود
دامعات الوجن
بل أثرى ساحل الباسفيكي ونفح اليانكي مارشاً عسكرياً بطلب من قائد الأسطول الأمريكي بمصر، بحسب إفادة الباحث في الموسيقى السودانية الدكتور “الفاتح الطاهر”، حيث ذكر في كتابه الموسوم (تاريخ الموسيقى في السودان): إن القائد الأمريكي سمع مقطوعة كان عبد المعين وضعها للحن من أغنية من جنوب السودان، فأعجبته، واستأذن منه بالسماح له بتوزيع هذا اللحن موسيقياً ليكون شعاراً للأسطول الأمريكي، وكان له ذلك.. ونال عبد المعين بضع جنيهات نظير ذلك.
(5)
مالو أعياه النضال بدني
روحي ليه مشتهية ود مدني
كان عبد المعين يترنم بهذه الكلمات وهو (يرش) عليها عبارات خفيفة تحتفي بالأمكنة.. مثل (أحب مدني) و(يا شباب مدني) (أب حراز مدني) (حنتوب مدني). وأغنية (ود مدني) هذه لـ (خليل فرح) غناها إلى جانب “عبد المعين ومحمد الأمين” الفنان “بادي محمد الطيب” بأسلوب مختلف.
(6)
أن توثق لـ”إسماعيل”.. فإنك لن تبلغ ربع حلمك، فالرجل وهب كل عمره للموسيقى واللحن السوداني، وخطا بهما خطوات لو خطاها غيره لتعثر وسقط، إن لم يرفع يديه مستسلماً، لكن ما ربما ما جعل “عبد المعين” يصمد إنه ذلك النشيد: (واجب الأوطان داعينا)..!