رأي

بعد.. ومسافة

مشهد وداع وفد تهنئة الملك جورج الخامس!
مصطفى أبو العزائم

أستاذ الأجيال والخبير التربوي “عمر حسن الطيب هاشم” مختص في علم التاريخ، بل يعتبر أحد أبرز معلمي مادة التاريخ بالمدارس الثانوية، لم يعتمد على المقررات وحدها، بل كانت له اجتهاداته الخاصة في الإحاطة بالحدث من كل جانب ومعرفة خباياه وأسراره، خاصة إذا ما اتصل بتاريخ السودان.. نفسح له هذه المساحة ليكتب لنا عن يوم مشهود من أيام السودان، وذلك تحت العنوان أدناه.
سفر الولاء 1919م
بعد أن وضعت الحرب العالمية وازدهار وتنفس الناس الصعداء ظهرت في مصر حركة وطنية بقيادة سعد زغلول حركت أشجان الشعب السوداني وخاصة الشباب، ولكن الإنجليز أدركوا علاقة النيل الخالد بشعبه الطيب لأن نسائم الجنوب تحمل الحب لأبناء الشمال عن طريقة مجرى النيل الخالد.
وأعلنت جريدة (الحضارة) في 21 يوليو 1919م، أن وفداً من السودان سيتوجه إلى إنجلترا لتهنئة جلالة الملك “جورج الخامس” بالنصر وكان ذلك زمن الحاكم العام “السيرلي استاك” 1916 – 1924م، وسيبرح الوفد الخرطوم في أوائل يوليو وسيصل إلى إنجلترا قبل نهاية هذا الشهر، وأعلن في الخرطوم أن حكومة جلالة الملك “جورج الخامس” أعربت عن سرورها العظيم لهذه الزيارة ومستعدة لأن ترحب بالوفد ترحيباً ودياً ولأهالي البلاد التي تربطنا بها روابط سياسية واقتصادية.
وفي يوم (الأربعاء) 2 يوليو 1919م، امتلأت محطة السكة حديد بالخرطوم وكان الوفد مكوِّناً من السادة السيد “علي الميرغني” و”الشريف يوسف الهندي” والسيد “عبد الرحمن المهدي” الزعماء الدينيين بالسودان والشيخ “الطيب أحمد هاشم” مفتي السودان والشيخ “أبو القاسم أحمد هاشم” رئيس مجلس العلماء والسيد “إسماعيل الأزهري” قاضي شرعي مديرية دارفور والشيخ “علي التوم” ناظر الكبابيش والشيخ “إبراهيم موسى” ناظر الهدندوة والشيخ “إبراهيم محمد فرح” ناظر الجعليين والشيخ “عوض الكريم عبد الله أبو سن” وكيل ناظر الشكرية.
وقد هيأت الأقدار لشباب من نابهة الخريجين أن يجدوا فرصة السفر مع هذا الوفد فقد سمح لأعضاء الوفد أن يصحبوا معهم بعض المرافقين ليستعينوا بهم فاختار السيد “إسماعيل الأزهري” حفيده الأستاذ “إسماعيل الأزهري” المدرس ورئيس أول وزارة سودانية كمترجم وأختار الشيخ “الطيب أحمد هاشم” ابنه المدرس “أحمد البشير” واختار الشيخ “أبو القاسم أحمد هاشم” ابن أخته المدرس “محمد حاج الأمين” وكان هؤلاء الشباب أول من شاهد إنجلترا من الخريجين.
ولم تشرق شمس يوم (الأربعاء)، 2 يوليو 1919م، حتى تقاطر الناس على المحطة من كل صوب وقد أخذت الاحتياطات لحفظ النظام في هذا الجمع المحتشد على بعد من باب المحطة وعلى الدرابزين مما يزيد عن الألف ناهيك عمن بداخل المحطة من أسعدهم الحظ بالحصول على تذاكر توديع طبعت بواسطة مكتب المخابرات وكان القائمقام “عقيد الان “هيبرت بك” ممتطياً صهوة جواده ليباشر بنفسه المحافظة على النظام، فلا غرو فالمسافرون محل معتقدات الأمة وأئمتهم وزعماؤهم والرحلة تاريخية قيمة لم يكن ليحلم بها من أفراد هذه البلاد لأن العوامل الدافعة كثيرة.
وقد انتدب صاحب المعالي الحاكم العام صاحب العزة الأميرالاي عميد الان “هوبيرت بك” سكرتير معاليه الخصوصي وبمعيته البكباشي مقدم الان مستر “ماستر” والمستر “هول” لتوديع الوفد، وفي الساعة العاشرة حصلت حركة غير عادية في المحافظة على النظام، وذلك لقدوم صاحب السيادة “الحسيب النسيب السيد “علي الميرغني” زعيم الوفد تنقله سيارة إلى باب الصالون الخاص لسيادته.
وفي الساعة 10:30 العاشرة والنصف تحرك القطار وتحركت بحركته جميع القلوب والأبصار وكان المسافرون مطلين من نوافذ العربات لتحية الوداع الأخير للأقوام الذين شيعوهم بحبات العيون والقلوب.
وقد حظي الوفد بمقابلة الملك جورج الخامس” في يوم 28 يوليو 1919م، وكان يرافقهم السيد “ونجت” الذي قتل الخليفة “عبد الله التعايشي” الذي استشهد في أم دبيكرات 1899م، وأصبح “ونجت” حاكم عام السودان من 1900 إلى 1916م، واللورد “جرنفيل” الذي استشهد على يده الأمراء “عبد الرحمن النجومي” و”عبد الحليم مساعد” في معركة توشكي 1889م، واللورد “كرومر” المعتمد البريطاني على مصر منذ 1882م، ومهندس اتفاقية الحكم الثنائي الإنجليزي المصري على السودان 1899م.
وقد أقلتهم عربات ملوكية إلى قصر بكنجهام والقي السيد “علي الميرغني” أمام الملك جورج” والملكة كلمة تهنئة بالنصر باسم السودان، وقدم السيد “عبد الرحمن المهدي” سيفاً من الذهب تقبله الملك “جورج” شاكراً ثم رده ليكون أثراً من جلالته لأسرة السيد “عبد الرحمن المهدي”.
ثم أنعم عليهم الملك “جورج الخامس” بالنياشين الآتية:
نيشان فيكتوريا” ملكة إنجلترا السابقة، من درجة فارس للسيد “علي الميرغني” مع لقب سير.
والنيشان نفسه من درجة رفيق على كل من “الشريف يوسف الهندي” والسيد “عبد الرحمن المهدي” والشيخ “أبو القاسم أحمد هاشم” ومن درجة عضو على كل من الشيخ “إبراهيم موسى” والشيخ “علي التوم” والشيخ “”إبراهيم محمد فرح” والشيخ “عوض الكريم أبو سن”.
وفي الساعة الخامسة والنصف مساء من اليوم السابع عشر من شهر أغسطس وصل القطار الذي نقل الوفد إلى محطة الخرطوم حيث تلقته حشود ضخمة أكثر بكثير من تلك التي ودعته، وكان في مقدمة المستقبلين نائب معالي الحاكم العام واليوزباشي نقيب الان “أحمد عبد الله سعد” (ياورا الحاكم العام اليرالي استاك) ورو والد الضابط “محي الدين أحمد عبد الله” عضو مجلس الثورة في حكومة الفريق “إبراهيم عبود” ووالد “الصافي أحمد عبد الله” (أبو أحمد) لاعب ممتاز في فريق الموردة في أوائل خمسينات القرن الماضي، ثم رجالات الجاليات الأجنبية والأعيان.
وهزت المناسبة مشاعر الشعراء الذين خلدوا المناسبة بشعرهم الرائع منهم الشاعر الشيخ “حسن عثمان بدري” وفي دار السيد “علي الميرغني” أنشد الفتى المهندس الشاعر “عبد الرحمن شوقي” القصائد الخالدة، وفي دار السيد “عبد الرحمن المهدي” أبدع الفتى الألمعي الشاعر الفذ “أحمد محمد صالح” بالقصائد الخالدة، أيضاً، التي تعبِّر عن السعادة ورغم الاستقبال والفرحة والبهجة بعودة الوفد، فقد كان الوفد مثار حملة عنيفة في الصحافة المصرية قد كان الشعور الوطني يغلي في مصر ضد الإنجليز لاعتقالهم لسعد زغلول ورفاقه الذين طالبوا بحرية مصر، وقد رد الزعماء السيد “علي الميرغني” والسيد “عبد الرحمن المهدي” والشريف يوسف الهندي” بتأسيس جريدة حضارة السودان وتحرير الجريدة برئاسة “حسين شريف” ودخل السودان مراحل سياسية عميقة.
المراجع : كتب تاريخية
سماع شخصيات تاريخية من الأهل
ملامح من المجتمع السوداني
عمر حسن الطيب هاشم
معلم تاريخ الهاشماب

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية