خربشات الجمعة
(1)
في ذلك المساء ورذاذ المطر يتساقط على أغصان الأشجار التي تحف المنزل الذي أقام فيه الصحافيون القادمون من الخرطوم لكسلا المدينة وكسلا الناس والحياة.. النابضة بكل شيء.. أخذ الأستاذ “النور أحمد النور” وهو مخبر دقيق ومرجع في التغطيات الإخبارية، لذلك بحثت عنه منذ زمانٍ بعيد الصحافة العربية المهاجرة وشغف “النور” رئيس تحرير الصحيفة الإخبارية جعله يرفض الانتقال لقناة مصرية تنقل مباراة المريخ السوداني والترجي التونسي الشهير (بعملاق باب سويقة) وهذه الكناية يظن الإخوان التوانسة بأنها تمجيد لفارس بلاد الجمال والزيتون والبحر، ولكنها (تقلل) من شأن عملاق أفريقي كبير.. والترجي اسم يثير الرعب والخوف حتى لو كان المنافس الأهلي القاهري أو أسيك الإيفواري.. نشب خلاف بين “النور أحمد النور” الباحث عن الأخبار حتى من تلفزيون السودان الذي له تقاليد مراسمية في عرض الأخبار (منضبطة) بالتدرُّج من أعلى الهرم إلى أسفله.. بمعنى أن أخبار الرئيس أولاً ثم النائب الأول والنائب ورئيس البرلمان والوزراء بشرط أن لا يقدِّم خبر وزير الرعاية الاجتماعية قبل خبر وزير الدفاع.. ولو مات ألف شخص في ولاية طرفية لن يذكرهم التلفزيون إلا بعد بث خبر نشاط (القوى السيادية العظمى) في البلاد، والطرف الآخر من الخلاف الناشب هم مجموعة عشاق الأحمر الوهاج أمثال المريخي المتعصِّب “محمد الفاتح أحمد” والمريخي الوسطي “بكري المدني” والهلالاب المنتظرين هزيمة المريخ للابتسام سراً والتظاهر بالقومية ومساندة أي فريق يلعب باسم السودان.
(2)
انتصر “النور أحمد النور” وهو ممسك (بالريموت كنترول) ومنتظر بدء نشرة العاشرة كأنه يترقب خبراً مهماً في ذلك اليوم مضت الدقائق حتى العاشرة والعشر دقائق، وتلفزيون السودان ببث شيئاً من الدعاية والموسيقى وذهبت ظنون “الطاهر ساتي” بأن تأخير النشرة من ورائه شيء ما.. ولكن ثار أنصار كرة القدم فانتقلت الصورة إلى ملعب برج العرب وليتنا لم نفعل، وجدنا الترجي نفسه ليس ترجي المرحوم “الهادي بن رخيصة” و”زياد الجزيري” وصابر خليفة” ولا “يوسف المسكيني” الترجي اليوم أصبح باهتاً.. وشبحاً لترجي آخر عرفه المشاهد السوداني والعربي والأفريقي، أما المريخ فقد أصبح مثل فريق الآرسنال الإنجليزي من حيث التكوين (الأممي) وليس بالأداء وجماليات الكرة الشاملة التي يقدمها عملاق العاصمة الإنجليزية الذي يضم في صفوفه إلا لاعبين إنجليز هم و”الكوت” ولاعب الوسط “شامبرلين” وثالثهم لاعب من أصول كنغولية، والمريخ اليوم هو “مارسيال” الإيفواري و”كونلي” النيجيري و”مامادو” المالي وآخر من الكاميرون لا أذكر اسمه لتواضع عطائه.. واللاعبون السودانيون قدموا في ذلك المساء فاصلاً من الضرب والرفس والعنف غير القانوني، لأن اللاعب السوداني لا يميِّز بين العنف والجسارة.. وقد تكفَّل الحكم بطرد “بكري المدينة” بعد أن رفس اللاعب التونسي في أسفل بطنه.. لأن المشجع السوداني هو من يحرِّض اللاعبين على العنف لتغطية عجزهم عن مقارعة المهارات وخفة الحركة، ولذلك يتعرَّض اللاعبين السودانيين في المنتخب والأندية للطرد بسبب العنف الساكن في تركيبتهم الداخلية.. ومع استمرار المباراة نسى الجميع تلفزيون السودان ونشرة العاشرة التي فشل التلفزيون في عرضها ذلك المساء، لكن الفشل الأكبر في عدم احترام التلفزيون للمشاهدين وكان حرياً به الاعتذار عن أخطاء المهندسين والمحررين رغم أن وزير الدولة “ياسر يوسف” هرع بنفسه يقود السيارة السيادية إلى التلفزيون لمعرفة الأسباب التي أدت لتوقف بث الأخبار في ذلك اليوم.
(3)
أكبر دعاية قدَّمها التلفزيون لنفسه هي واقعة الفشل في تقديم نشرة الأخبار.. وقد فاضت مواقع التواصل الاجتماعي بالأخبار والأقوال والآراء التي تقدح في التلفزيون وتأكل في لحم “الزبير عثمان” الرجل الذي ظُلم بقرار تعيينه لإدارة جهاز شاخ وهرم وأصبح صوته (مخنوقاً)، وطلب من الزبير” أن يقود عربة بلا وقود.. وجيش بدون مقاتلين.. المهم التلفزيون أصبح حديث المدن ومجالس السياسة وحتى الوزراء وكبار المسؤولين الذين يتابعون صورهم في التلفزيون ويتابعون الأخبار في الجزيرة والعربية وجدوها فرصة.. للنيل من التلفزيون وجاءت ردة الفعل المباشرة من إدارة التلفزيون بتقديم “الوليد مصطفى” الصحافي المحترم كبش فداء لأخطاء غيره.. ولم تطرف لقيادة التلفزيون جفناً وهي ترفض لـ”الوليد مصطفى” السفر إلى رواندا في مهمة نقابية برفقة رئيس اتحاد الصحافيين، ولأن التلفزيون مهتم جداً بزج كبش الفداء ليفدي “الزبير” نفسه من قرارات قد تهبط من أعلى فجأة وتبعده من موقعه، أختار التلفزيون تقديم عنق “الوليد مصطفى” لحبل المشنقة.. ولأن إدارة التلفزيون بالنصوص التي تحظر فصل النقابيين أو الأضرار بمواقفهم في المؤسسات التي يعملون فيها بسبب نشاطهم. و”الوليد مصطفى” كان في طريقه إلى كيجالي وكان قرار إعفائه من إدارة الأخبار في الطريق من مدير التلفزيون إلى زملائه.
(4)
وجاءت قرارات أخرى في خضم ثورة “الزبير” بإيقاف الإذاعي بهي الطلعة “محمد الأمين دياب” من تقديم نشرة العاشرة.. ورغم أن الوزير “ياسر يوسف” قال لكاتب هذه الزاوية: إن قرار إيقاف “محمد الأمين دياب” اقتضته ضرورة الحفاظ على هوية وصورة القناة القومية وشخصيتها، حيث ينشط “دياب” في تقديم برامج في فضائية أخرى، وأن القرار أسبابه لائحيِّة ولا معركة مع “دياب” الذي في حال توقفه عن الظهور في القنوات الأخرى سيعود إلى التلفزيون القومي، ولكن لماذا دائماً “محمد الأمين دياب” إما (موقوف) أو (ممنوع) من الظهور في بعض البرامج حيث تم إيقاف الشاب المثقف عن تقديم برنامج (خطوط عريضة) بحجة أن لهجته وأسئلته لا تروق لبعض المسؤولين في الحكومة الذين يضيقون بمسامات الحرية ويعتبرون الأداء المهني (تفلت) والأسئلة المباشرة لأصحاب السادة والمقامات الرفيعة (أجندة)، ولكن “دياب” المسكين لم يقتل أبرياء في دارفور ولم يسرق بنكاً في الخرطوم ولم يقبض (كومشن) من صفقات استيراد مواد بترولية ولم يستفد من لجان العطاءات، ولكنه الضوء ينحت صخرة.. مثل “فضيلي جماع” حينما يقول:
عبثاً تناطح ظلها الأشجار
والساعات تهرب للوراء
وأنشد إذا هبط المساء
أيها الوطن المعبأ في شرايين
وينفح في دمي عطراً وأشعاراً
وجذوة كبرياء
وحتى نلتقي الجمعة القادمة