الكنار "محمود أبوبكر" .. رشفات من أكواب بابل في صحة الوطن الجريح..!
ولبعض العسكريين أنصبة ناعمة كثيرة في حياة الناس، ووراء تلك الصرامة المعهودة والانضباط البادي للرشق والعيون، وخلف ذاك القناع من الجفاء والجفاف يخبئون إبداعاً وأرواحاً قلقة، ويخفون أنفساً سهلة وطيعة تعشق الحياة وتغني للحب وتحتفي بالجمال..
ليس الصاغ “محمود أبوبكر” هو العسكري السوداني الوحيد الذي يمكنه الصعود (أعلاه) إلى تلك المقدمة، لكن يأتي إليها ممثلاً لرهطه المجيد، وناطقاً وجدانياً فريداً باسمهم جميعاً، أليس هو من صدح (صه يا كنار وضع يمينك في يدي)؟
(1)
وفي يمين الصاغ قوافٍ وأغنيات، وعلى كتفه (أنجم وصقور)، لكن قبل كل ذلك نكون قد أغفلنا ما لا يجب أن نغمض عيوننا عنه ما لم نقل أنه ولد لمدينة (بور) بجنوب السودان 1908م، حيث كان يعمل والده (الكسلاوي) عسكرياً أيضاً (ضابطاً بالجيش)، وما لم نُشِر إلى أنه أم درماني على (سكين) خور أبو عنجة.
وتمضي سيرة الراحل “محمود أبوبكر” المحتشدة بتفاصيل كثيرة لتقول: درس بعطبرة ثم الأبيض والتحق بكلية غردون العليا التي تخرج فيها عام 1933م، قبل أن يلتحق بالمدرسة الحربية التي تخرج فيها 1937 م، ضمن الدفعة الرابعة وحاز على براءة الحاكم العام، وشارك في الحرب العالمية الثانية ضمن (الحلفاء) في الكفرة بـ (ليبيا)، ورحل عن الدنيا عام 1971 م.
(2)
وكانت السيدة ” فاطمة مدني” حرم الكنار الراحل الصاغ “محمود أبوبكر” قالت في حوار صحفي أجرته الزميلة “آيات مبارك” قبل سنوات لصالح الزميلة (حكايات) عن زوجها الراحل، إن أسرته من أعيان قبيلة الحلنقة بكسلا، ووالدته شلالية ووالده “أبوبكر حسن” كان ضابطاً (يوزباش)، ودرس بعطبرة الأمريكية ثم الأبيض الأميرية وحلفا الأميرية الوسطى وأكمل تعليمه الثانوي بكلية غردون العليا متخرجاً (قسم الكتبة)، وعندما بلغ الرابعة عشرة من عمره اتخذه مدير قسم عموم إدارة السكة حديد سكرتيراً خاصاً لمراسلاته السرية، قبل أن يلتحق بالجيش في العام 1937م.
هذه هي السيدة التي كتب لها زوجها الراحل أجمل أشعاره، وهو بعيد عنها يجاب في جبهة (الكفر)، وغنى لها صوت دافئ وحنون كصوت الراحل “أحمد المصطفى” أغنية لا زال لحنها يسري بين الناس، فتدق قلوبهم وتدمع أعينهم ويتأوهون:
زاهي في خدره ما تألم
إلا يوم كلموه تكلم
هف بي الشوق قال وقال
قالوا ليهو القطر تقدم
وكفرة نيرانا زي جهنم
حن قلبو ودمعه سال
(3)
وقلب الصاغ لم يحن إلى حرمه وأهله فقط، بل كان (يحن) إلى رائحة تراب طن كامل ظل ينافح عنه بـ (دم أحمر) حتى بلغ من أجله صحراء الكفرة وجهنمها وسعير الحرب العالمية الثانية، و(لظى) الفراق والبعد و(سقر) القوافي إذ تمشي في مفاصله وتلهب أوردته وشرايينه، فيكتب:
وإذا البان تثنى وإذا البلبل غنى
فأعلمي يا هند أنا نكتم الحب ونفنى
أعشق الطبع العليا فيك يا أخت الثُريا
لم يكن طبعك إلاّ عند من كان نبياً
ويغني “خضر بشير” وترقص الأشجار، وتدمع عينا “فاطمة مدني” فرحاً وترتفع حواجب عزتها وتقول في ذات الحوار القديم للمحررة (يا بتي الأغنية قصتها في بطني).
(4)
وإيه يا مولاي يا “محمود أبوبكر” إيه، من كل شيء هنا والآن، ولولا (المشقة) لقلت إنك أيها المتأرجح بين قسمات ممعنة في الجمال وتقاطيع تتسامى في اختراق نبضات الزمن، كنت ضد الحرب ومع الحياة والحب، وإنك في (المشقة) ذاتها كتبت نشيداً وطنياً عظيماً قرر (بعضهم)، وإيه منهم، أن لا يكون كذلك، فـ (صه يا كنار) في عليائك وانتبه (إننا ننصفك)..!!
ينصفك عشاق شعرك ومريدو غنائك البهي، ويصنفك لحن “إسماعيل عبد المعين” وغناء كل الشعب السوداني، أطفال المدارس، طلاب الجامعات، العمال والأفندية، وتجار السوق، وبعض السياسيين وكل العصافير:
صه يا كنار وضع يمينك في يدي
ودع المزاح لذي الطلاقة والدد
صه غير مأمور وهات هواتنا
كالأرجوانة وأبك غير مصفد
إلى أن نبلغ ذروة (الوطن)، فنبلله بغيمات العشق الكبير، ونكفكف دمعه ونوقف نزفه، ونضع من على أكتفانا البندقية، فلقد وضعها الذي حارب من أجل استقلال الوطن في بلاد بعيدة وصحاري نائية، ثم أعتنق النشيد، فلنغنِّ أغنياته إلى آخر (شوط) هذا الوطن الجريح، ونمد (الإيد ونتسالم) ثم نرفع عقيرتنا:
أرأيتَ لولا أنْ شدوتَ لما سرتْ بي سارياتُكَ والسُّرى لم يُحمَد
حتى يُثوِّبَ للكماة مُثَوِّبٌ ليذيبَ تاموري ويحصب موقدي
أنا لا أخاف من المنون وريبِها ما دام عزمي يا كنارُ مُهنَّدي
سأذود عن وطني وأهلك دونَهُ في الهالكين فيا ملائكةُ اشهدي
وأشهدوا معي هنا، أن “محموداً” رحل عن دنيانا وليس في حوزته سوى دعوات السلام والحب وكثير من الشعر والدوزنة.