بعد ومسافة
“هوي يا ليلى”.. النداء الأخير
مصطفى أبو العزائم
واحدة من الأغنيات الشعبية التي وجدت انتشاراً عظيماً لعقود من الزمان، ولا يعرف لها شاعر بعينه، إذ أنها أغنية شعبية لكن أهل المغنى رددوها في “قعداتهم” الخاصة وفي حفلاتهم العامة أيضاً، ومن أبرز الذين تغنوا بها فزادها انتشاراً على انتشار، الفنان الكبير الراحل “عثمان الشفيع” وتقول بعض مقاطعها:
هوي يا ليلى.. هوي
من جوار ناس ليلى
هوي يا ليلى هوي
ومن فراق ناس ليلى.. حنين يا أبو ليلى
**
سجن كوبر يا المجنون فوقو
جوني الحبايب جابوا لي روقو
حنين يا أبو ليلى
**
وتستمر الكلمات البسيطة بلحن شجي مكتمل ذي أثر بليغ على متابعي الأغنية، خاصة عندما يقول المغني:
حنّان ودّعتو.. مهدي اللهِ فوقو
ويتصاعد الشجن مع ميلودية بالغة التأثير عندما تنطلق الكلمات تشير إلى كل مدن السودان التي عرفت السكة الحديد ومحطاتها المعروفة بـ(فريق القطاطي) أو إلى كل منطقة تضم (فريق القطاطي) في أنحاء هذا الوطن الشاسع الواسع، لكن ووفق معلومات موثقة وأكيدة بالنسبة لي، فإن (فريق القطاطي) المعني هو (فريق) السكة الحديد في مدينة ود مدني، إذ تقول الكلمات لمن فاتهم الاستماع إلى كامل الأغنية:
ببكي وأهاتي الليل
ببكي وأهاتي..
من المحطة لفريق القطاطي
حنين يا أبو “ليلى”
تلك كانت “ليلى” التي يعرف المقربون منها وأهل تلك الديار أن لها علاقة قوية بأغنية (خداري) التي بدأت (أغنية بنات) شعبية ذات لحن شجي وبسيط ،فاكتسحت الأسماع ليلتقطها فنان عظيم هو أمير العود الأستاذ “حسن عطية” الذي أعجب باللحن وعرف الشخص الذي تغنت له بنات ذلك الزمان، وهو طبيبٌ في زمان كان الأطباء قلة، فأخذ المطلع واللحن وجلس إلى صديقه الشاعر المرهف الفنان الأستاذ “عبد الرحمن الريح” الذي نسج على منوال اللحن وروح الأغنية، أغنية جديدة هي أغنية (خداري البي حالي ما هو داري) وهي (أغنية بنات) ذاعت وانتشرت في ثلاثينيات القرن الماضي رددتها بنات ذلك الزمن للطبيب الوسيم صاحب الأدب الرفيع، وهو قد أصبح لاحقاً والد “ليلى” التي تغنى لها المغنون، وصرخوا شجواً منادين (هوي يا ليلى) ولم ينسوا أباها فوصفوه بـ(حنين يا أبو ليلى).
التفاصيل الكاملة لديّ وسمعتها من جدتي لأبي الحاجة “زينب عبد الرحمن رحمي” رحمها الله – وأعرف أبطالها الروايتين الشعريتين معرفة شخصية، لكن علاقتي بـ”أبو ليلى” لم تتعمق أو تقوى فقد رحل باكراً، وهو في أوج نجاحاته وعظمته وشبابه، وكان طبيباً ناجحاً يشار إليه بالبنان، وعندما رحل كنت صغيراً، بل طفل يدرج في مدارج الصبا، لكنني كنتُ قد ألممت بتفاصيل حبه لأم “ليلى” وارتباطه بها، ثم تدخلت أيادي أخرى فتفرّق شمل المحبين من بعد التئام، ليحدث ارتباط جديد أثمر عن أخوة وأخوات لـ”ليلى” لكنها ظلت هي الأثيرة والأقرب لقلوب الأقارب والمقربين.
اليوم (الجمعة) يمر شهر كامل على رحيل “ليلى” من دنيانا، وهي سيدة فاضلة تبذل الجهد والمال والخير للغير، وكنت من أقرب الناس إليها، أحببتها من كل قلبي مثلما فعل كل من عرفها.. ولأنها أحبتنا أيضاً فقد جاءت من عند الساحل الشرقي مساء لتلاقي ربها فجر اليوم التالي، كانت تريد أن ترانا وكنا نريد أن نراها، وطلبت إلى طبيبها المعالج أن يحادثني، وتحدث إليّ الرجل وعرفت منه أن الحالة حرجة، ومع ذلك جاءت إلى الخرطوم متماسكة مبتسمة، لكن لا تدري نفس ماذا تكسب غداً، ولا تدري نفس بأي أرض تموت.
اللهم أرحمها وأغفر لها وأعفُ عنها وأدخلها فسيح جناتك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.. آمين.
..و.. جمعة مباركة