اعتذارك بفيدك
ساهم الفنان الراحل “محمد عثمان وردي” في توطين ثقافة التمادي في الخطأ والعناد.. والتقليل من قيمة الاعتذار، وقد ردد الملايين مع “وردي” مقطع الأغنية الشهيرة (اعتذارك ما بفيدك العملتو كان بأيدك أنت يا ظالم عند الله جزاك)، اتخذ البعض من قيمة الاعتذار الحضارية كشيء لا فائدة ترتجى منه قياساً على وقائع قصة حب وهيام وعشق جعلت العاشق يشيح بوجهه عن محبوبته التي اعتذرت عن هجرها لقلب مترع بالحنين لرؤيتها، ولما أقبلت معتذرة رفض ذلك وتمادى في هيامه وتمنعه وقياس العشق والهيام بواقعية الفعل السياسي ضرب من الأوهام.
وثقافة الاعتذار في مجتمع مثل السودان يبتسر تفسيرها وتعتبر عند البعض محض ضعف لا يليق بعظمة وكبرياء الشخصية السودانية، وهو في الواقع كبرياء زائف، لذلك يرفض الساسة السودانيون الاعتذار عن أخطائهم ويتمادون في ركوب الرأس، ومن يعتذر عن الخطأ لا يجد التقدير والاحترام.. ولذلك كان موقف د.”أحمد بلال عثمان” وزير الإعلام نبيلاً وكريماً وهو يقبل على المثول مسرعاً أمام لجنة برلمانية ويقدم بين يديها تفسيراً لأسباب تصريحاته الصادمة للحكومة بشأن قضايا جدلية وخلافية مثل الموقف من الصراع الخليجي، حيث يقف بعض المواطنين وحتى المسؤولين في الدولة بأشواقهم الذاتية مع هذا الطرف أو ذاك، بينما الموقف الرسمي لحكومة السودان (الحياد) التام، واعتذار د.”أحمد بلال عثمان” الذي ظل فاعلاً في الساحة السياسية ووزيراً يقفز من الصحة إلى الإعلام ومن الإعلام إلى غيرها منذ عام 1986م، وحتى اليوم.. يفترض أن يطوي الاعتذار صفحة التصريحات التي وضعت الرجل تحت القصف المدفعي.. وأثارت تصريحات “بلال” مجدداً الجدل السياسي ما بين الدوحة والقاهرة وحالة الجذب والتشاحن – التي تسود المناخ العربي العام، فالاتحاديون بطبيعة ثقافتهم التراكمية ونشأة حزبهم في حضن الخديوية المصرية الأقرب وجدانياً إلى (أم الدنيا)، لذلك احتشد بعض الاتحاديين حتى من الجناح الآخر أو ضفة مولانا لمؤازرة وتشجيع وزير الإعلام الذي انزلق لسانه مع لزوجة المكان ووضع نفسه في مواجهة مع تيار الإسلاميين الحاكم في المؤتمرين وانشقاقاتهم، أي الإصلاح الآن والسلام العادل، وهؤلاء بطبيعة ثقافتهم وانتماءاتهم الفكرية أقرب لروح الثورية التي قد لا تمثلها قطر بشكل دقيق، لكنها الأقرب من الرياض لوجدان الإسلاميين.. مثلما كانت بغداد في عصر “صدام حسين” أقرب للإسلاميين من كل مشيخات الخليج.
اعتذار الوزير “أحمد بلال عثمان” نزولاً لمقتضيات الواقع و(مسايرة) لأهل الشوكة في الحكم لا يغلق باب الموالاة إلى القاهرة والرياض عند كثير من السودانيين في الأزمة الحالية، ولكنه يفتح باب الحديث عن جدوى وجود ناطق رسمي باسم الحكومة ينتمي لحزب لا يملك قاعدة في البرلمان يعتد بها.. ولماذا ينظر دائماً لحديث وزير الإعلام بسبب انتمائه لحزب شريك وليس حزباً حاكماً مثل المؤتمر الوطني بعين الشك والترقب؟.. ويجد وزير الإعلام الناطق الرسمي باسم الحكومة نفسه في وضع شديد التعقيد.. وأي كلام من الوزير ينبغي الأخذ في الاعتبار مواقف الحكومة (البطيئة) جداً.. ومواقف المؤتمر الوطني حزب الأغلبية.. الشيء الذي يجعل إعادة النظر في أيلولة صفة المتحدث باسم الحكومة لوزير من غير الحزب الحاكم بأغلبيته مسألة ضرورية جداً في الوقت الراهن.
وإذا كان “ياسر يوسف” الذي يمثل الحزب الحاكم يقبع في ظل الوزير الكبير وينأى بنفسه تأدباً من مناطق التقاطع طوال الفترة الماضية، فإن تجربة حكومة الوفاق الحالية في التعبير عن نفسها من خلال “أحمد بلال” تبدو للرأي العام شائهة جداً وبطيئة وكسيحة.. فلماذا الإصرار على وضع الطبيب “بلال” في مكان لا يناسب قدراته ولا مزاجه ويجعله في صراع ما بين تاريخه السياسي وحاضره ومستقبل حكومته؟.