انهيار الشعبية (1)
لا يزال “مالك عقار” يمنِّي نفسه بعودة الماضي.. وقديماً كتب “محمد عبد الحليم عبد الله ” رائعته “الماضي لا يعود”.. و”مالك عقار” الذي وجد نفسه رئيساً لحركة شعبية أنجبتها ظروف تاريخية بعد انفصال الجنوب.. وتحريض الجنوبيين لحلفائهم في منطقتي النيل الأزرق وجبال النوبة. إن ما قدمه الشمال للجنوب من سلطة وحكم ذاتي وشبه استقلال من المركز يمكن أن يقدمه للحركة الشعبية في المنطقتين بعد الانفصال ،إن هم عادوا مرة أخرى لميدان القتال وأشهروا السلاح ،متضامنين مع حركات دارفور.. ونصبت الحركة الشعبية “مالك عقار” كرئيس (صوري)، وقبض “ياسر عرمان” على مفاصل قيادة الحركة الشعبية.. المال بيده.. ومفتاح العلاقات الخارجية في جيب سرته.. وتحالفات الحركة تحت أمرته.. وعزز “ياسر عرمان” سلطاته المطلقة من خلال سحب البساط من تحت أقدام “عبد العزيز الحلو” ، الذي يملك الجيش المقاتل.. ويفتقر إلى كاريزما القيادة السياسية.. وشكَّل أبناء النوبة أكثر من (40%) من قوات الحركة الشعبية قبل الانفصال ،و(90%) من قوات الحركة الشعبية بعد الانفصال، ومن يقرأ تاريخ الانقلابات العسكرية منذ انقلاب “علي حامد”، انقلاب “كبيدة”،”جعفر نميري”، “هاشم العطا”.. وحتى انقلاب 30 يونيو بقيادة “البشير” يجد النوبة يمثلون وقوداً لتلك الانقلابات.. ويخوضون في وحل الانقلابات رغبة وطمعاً وأملاً في التغيير، حتى دون الوعي بأهداف ومرامي تلك الانقلابات.. وبسبب ما تعرضت له منطقة جبال النوبة من نقص في الخدمات، وإهدار لطاقات أبنائها في عصور التاريخ الوطني المتعدد .. اتجهت أعداد كبيرة من أبناء النوبة إلى أحضان الحركة الشعبية دون وعي، هل الحركة الشعبية تمثل طوق النجاة؟. أم هي مقبرة لدفن أحلامهم ووأد تطلعاتهم؟.. وإذا كان النوبة والشايقية والبقارة ، يمثلون نواة جيش السودان ، وأكثر من خدم الجندية في إخلاص وتفانٍ وانضباط، فإن الحركة الشعبية استطاعت عزل النوبة نفسياً عن بقية السودانيين.. وفرضت عليهم الانكفاء القاتل.. والعزلة غير المجيدة.. وبثت خطاباً عنصرياً إقصائياً ، يفتت وحدة البلاد ويمزق أحشاءها ويوردها المهالك.
التف النوبة حول “يوسف كوة مكي” واعتبروه رسولاً للرحمة ومنجاة من عذاب الدنيا.. فأخذهم أستاذ المدارس الثانوية إلى الجنوب معصوبي الأعين ليقاتلوا من أجل الحركة الشعبية ودفعوا ثمن تصدعات الجنوبيين.. ولما أنشق “رياك مشار” ود.”لام أكول” وو”ليم نون” اتخذ “جون قرنق” من المقاتلين النوبة دروعاً لصد هجمات النوير.. ودبابات تحرس مشروع السودان الجديد.. وشكل رحيل “يوسف كوة” صدمة لأبناء النوبة لتدب الخلافات العميقة وسطهم.. حول القائد الذي يخلف “يوسف كوة”، في القيادة هل هو “تلفون كوكو”؟ أم “دانيال كودي”؟ أم “محمد جمعة نايل”؟ أم اللواء “إسماعيل خميس جلاب”؟.. وهؤلاء جميعاً من القوميين النوبة الذين ينظرون لقضية الجبال بمنظور أثنى وعرقي.. وهناك أولاد “قرنق” الذين يعتبرون نظرية السودان ومنفستو الحركة هما المرجع الأول والأخير.. ومن باب هذا السُلَّم الذي استخدمه “جون قرنق” لقهر القوميات الجنوبية ، من غير الدينكا ، صعد من الاستوائية “سامسون كواجي”.. ومن الشلك “باقان أموم”، ومن الباريا “جيمس واني أيقا”.. ود.”لام أكول” من شلك فشودة ، و”عبد العزيز الحلو” من المساليت.. و”ياسر عرمان” من الجعليين.. وفشل “جون قرنق” ومشروعه في استمالة البقارة ، وهم المسيرية والحوازمة والرزيقات.. ويسلم السودان الجديد.. ونظريات “قرنق” عن التهميش ، ثم تنصيب “عبد العزيز الحلو” خليفة.. لـ”يوسف كوة” في جبال النوبة ، وسط اعتراضات من القوميين النوبة والعنصريين حتى غيَّب الموت “جون قرنق” وانفصل الجنوب لتبدأ فصول حقبة تاريخية جديدة ، نعرض لها في الحلقة القادمة.