(4) رمضان.. المفاصلة التي هزت عرش الإسلاميين (8)
{ عاد الشيخ “الترابي” من بوابة المجلس الوطني في أم درمان بعد أن منع من دخوله صباح (الخامس) من رمضان، تنفيذاً لقرارات رئيس الجمهورية بإعلان حالة الطوارئ بالبلاد لمدة ثلاثة أشهر، وحل البرلمان، وتعليق مواد بالدستور، أذيعت القرارات بالإذاعة والتلفزيون قبيل منتصف ليل الرابع من رمضان الموافق للثاني عشر من شهر ديسمبر عام 1999م.
{ وصل “الترابي” إلى مكتبه بدار حزب المؤتمر الوطني بشارع (55) العمارات، وبدا مرهقاً.. ومنهكاً.. وفي حالة نفسية سيئة، وجلس إلى كرسي في صالون فسيح، فتزاحم عليه سريعاً الصحفيون، وعلى مسافة منه وباتجاه آخر وفي ذات المكتب جلس الدكتور “علي الحاج”.
{ وصف رئيس المجلس الوطني (المحلول) ما حدث بأنه (انقلاب عسكري)، واتهم الرئيس “البشير” بأنه انقلب على الدستور ونكص عن العهود والمواثيق، وهدد بردة فعل شعبية مناهضة للانقلاب.
{ أما الدكتور “علي الحاج” فلم يتردد في ربط قرارات الرابع من رمضان بتدخلات خارجية وأشار إلى أصابع (مخابرات أجنبية) ضالعة في الأحداث، وإن لم يحدد هويتها.
{ كنت حاضراً لذلك المؤتمر الصحفي الملتهب، وكان المحررون يتدافعون بالمناكب ليحظوا بتصريحات “الترابي”، فلم يكن مؤتمراً منظماً ومرتباً، بل كان وليد الحدث والصدمة.. والتوترات.
{ نشرت صحف الخرطوم في اليوم التالي كل ما قاله “الترابي” و”علي الحاج” دون حذف أو حجب لفقرة أو عبارة، كانت أبواب الحريات مشرعة على مصراعيها في تلك الأيام وما قبلها ومنذ العام 1996م عندما صار “الترابي” رئيساً للبرلمان وأميناً عاماً للحزب الحاكم، وكان هذا ما يحسب للشيخ، لا عليه، إطلاقه للحريات واحترامه المطلق للصحافة والصحفيين بمختلف توجهاتهم الفكرية والسياسية، وظل “الترابي” على هذا الطريق حتى غادر الفانية العام الماضي.
{ انقسم الصحفيون والكُتّاب (الإسلاميون) وغيرهم إلى قسمين، قسم تزعمه الأستاذ “حسين خوجلي” وهذا وقف مع زعيم الحركة الإسلامية دفاعاً عن ما سموه (الشرعية) تعرية للذين خرقوا الدستور، ووجه “حسين” عبر كلمته المقروءة في (ألوان) مدفعية ثقيلة ضد الرئيس “البشير” ونائبه “علي عثمان”، تجاوز فيها كل الخطوط الصفراء والحمراء، فيما دافع بضراوة عن قرارات الرئيس كل من الراحل “محمد طه محمد أحمد”، “موسى يعقوب”، “إسحق أحمد فضل الله”، “الهندي عز الدين”.. وآخرين.
{ كانت (ألوان) تمثل الصحيفة السياسية الأولى في توجيه الرأي العام في تلك الفترة، وكان “حسين” يديرها بدهاء وتوازن، بحيث تمثل تياري (القصر) و(المنشية) في ذات الوقت، وتم استهداف الصحيفة لاحقاً عندما اختلت الموازنة وصارت لساناً للمؤتمر الشعبي.
{ ويحكي لي الزميل “كمال علي” وكان سكرتيراً للتحرير أن “حسين خوجلي” الذي كان يأتي للصحيفة أيام المفاصلة حوالي العاشرة مساءً ليكتب مقاله اليومي، لا يبدأ في دلق حبره على الورق (A4) بخطه المميز الجميل قبل أن يسأل سكرتير التحرير: (“الهندي” كتب؟)، وبعد أن يطمئن إلى توازن الرأي بالعدد، ينطلق في توجيه صواريخه باتجاه القصر الجمهوري، فهيجت مقالاته الإسلاميين وعبأتهم ليؤازروا بالفكرة أو بالعاطفة شيخهم الكبير (المغدور)، أو يرفضوا الانقلاب عليه، فيفارقوا العمل السياسي ويكتفوا بالمراقبة من على الرصيف.
{ ورغم أن (المؤتمر الوطني) بقيادة الرئيس ونائبه قد حسم المعركة لصالحه من شوطها الأول، لأسباب متعددة أهمها أنه كان يقبض على مفاصل السلطة ومفاتيحها التنفيذية والمالية والأمنية، فضلاً عن قناعة الكثير من الكوادر بعدم التفريط في الدولة التي بنوها بالعرق والسهر الطويل ودماء إخوانهم وأبنائهم في الجنوب، إلا أن حزب (المؤتمر الشعبي) ظل وحتى يومنا هذا من أقوى الأحزاب تماسكاً وحركة وفاعلية، ويكفي ما نجح فيه قبل أسابيع بعقد مؤتمره العام الأخير وانتخاب الدكتور “علي الحاج محمد” المهاجر في “ألمانيا” لأكثر من (17) عاماً أميناً عاماً للحزب خلفاً للشيخ الراحل والشيخ المكلف.
{ بالنسبة لي، وبعيداً عن تجاذبات أجنحة تنظيم (الإسلاميين) الذي لم أكن ناشطاً في مكاتبه السرية، كنت أحذر من خلال مقالات منتظمة في (ألوان) من تداعيات الأزمة وإمكانية الإطاحة بالشيخ “الترابي”، وكنت أتوقعها عندما كان يستبعدها أهل (التنظيم) ومسؤولو مكاتب المعلومات.
{ في تلك الأيام العصيبة من العام 1999م، كتبت مقالاً تحت عنوان: (الرسالة الأخيرة إلى الدكتور “الترابي”.. احذروا رجل القصر الصامت فإنه يملك المفاتيح) وكنت أعني الأستاذ “علي عثمان” برجل القصر، وأذكر أن أحد (الإخوان) من أتباع الشيخ في تلك الأيام، علق لي قائلاً: (صاحبك دا ما عندو أي مفاتيح غير مفاتيح البوكس الدبل كابين البجيبوا بيهو الخضار للبيت)!!
{ بلغ الاستهتار مبلغاً بقادة الدولة الذين كانوا يقودون الدولة فعلاً، بل هم أنفسهم الذين نفذوا (الانقلاب) في 30 يونيو 1989م، وقادوا الثورة والشيخ “الترابي” حبيساً في السجن ستة أشهر.
{ ثم أنهم هم الذين أداروا العمل التنفيذي للدولة والنشاط (الخاص) للتنظيم، من بعد ذلك حتى بعد خروج زعيمهم من السجن وعلى رأس هؤلاء “إبراهيم أحمد عمر”، “علي عثمان”، “عوض الجاز”، “نافع علي نافع”، “أحمد إبراهيم الطاهر” و”غازي صلاح الدين”.
{ في تلك الأيام استدعاني النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ “علي عثمان” إلى مكتبه بمقر مجلس الوزراء القديم بشارع “المك نمر”.. كان أول لقاء تعارف مباشر يجمعني به، لم يكن هناك ثالث بيننا، عبر شيخ “علي” عن تقديره لما أكتب وحيّاني على موقفي وثقتي فيه، وتحدث معي حول الوضع الراهن حينها، عدت إلى الصحيفة وباشرت عملي كالمعتاد، متابعاً تطورات الأحداث وتقلباتها.
} نواصل غداً