بعد ومسافة
“غندور” …الجمع بين المنطق والعاطفة ..!
مصطفى أبوالعزائم
رحلة البروفيسور “إبراهيم غندور” وزير الخارجية الأخيرة إلى “القاهرة”، ستظل واحدة من أهم رحلاته الخارجية الأخيرة خلال هذا العام، وستنبني عليها أسس وقواعد جديدة للتعامل بين السودان ومصر، بعيداً عن لغة العواطف القديمة التي لم ترتكز على قواعد تبادل المنافع بما يرضي الشعبين في كل من شمال وجنوب الوادي .
التعامل وفق البعد العاطفي وحده فيه ظلم كبير للبلدين التوأم – كما أحب أن أسمي العلاقة بين شطري وادي النيل – وربما ولّد غبناً داخل النفوس عندما تستدعي بعض القوى السياسية – عن قصدٍ أو بدونه – الأحداث والوقائع التاريخية التي تؤجج نيران الحقد في القلوب والنفوس، مثل غزو جيوش محمد علي باشا للسودان، بحثاً عن (العبيد) و(الذهب) كما ورد في كتب التاريخ الحديث، أو عندما يسترجع السودانيون تاريخ بلادهم القديم ويفتخرون بمملكة نبتة التي أنشئت قبل الميلاد بنحو سبعمائة وخمسة وعشرين عاماً بالقرب من جبل البركل وحكامها من أمثال “كاشتا” أول ملوك الكوشيين الذي غزت جيوشه مصر واستولى على السلطة في مصر العليا، والذي تبعه ابنه “بعانخي” فأكمل غزو مصر كلها ليصبح الحاكم المطلق لكل وادي النيل، والذي يقول المؤرخون إنه أعاد الحياة من جديد للحضارة المصرية بعد أن كان قد أصابها الأفول والصدأ .
تستعيد الذاكرة السودانية التاريخية دائماً المظالم التي وقعت على القبائل السودانية إبان فترة حكم “التركية السابقة” وتسجل ذلك في دفتر الديون على مصر في حين أن مصر نفسها كانت تقع تحت سيطرة الآخر، إذ انفرد “محمد علي” بحكم المحروسة بعد أن خرج عن الباب العالي في الآستانة وتولى حكم مصر بعيداً عن حكم سلاطين بني عثمان، وتلك المظالم الشديدة والعسف والجور في المعاملة وفي الجباية وفرض الضرائب الباهظة كانت سبباً في الثورة التي رفع لواءها الثائر الشاب “محمد أحمد بن عبد الله” (المهدي) في أغسطس عام 1880، ليعلن بعد ذلك بعام أنه “المهدي” المنتظر لتنطلق الثورة ويلتف الناس حول الزعيم الجديد خاصة بعد نجاحاته المتواصلة وهزائمه المتكررة لجيوش الحكومة بدءاً من الجزيرة أبا فقدير وشيكان وسقوط الأبيض وحصار الخرطوم في 26 يناير عام 1885م ثم سقوطها ومقتل “شارلس غوردون” وهو ينتظر المعجزة والمدد من خديوي مصر حيث لم تحدث معجزة ولم يصل مدد، وقد حملت الدولة المهدية الكثير من الإحن والضغائن تجاه مصر، ولم تفرق بين حاكم ومحكوم .
مجرى التاريخ والوقائع لا يكون مثل مجرى النهر ثابتاً لا يتغير، وترى بعض النخب السودانية أن مصر تعاملت دائماً مع السودان تعامل الشقيق الأصغر القاصر، وفرضت وصايتها دائماً على الأنظمة الحاكمة انطلاقاً من حرصها على حصتها من مياه النيل، وسبق للمؤرخ الإغريقي “هيروديت” الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد أن قال: (مصر هبة النيل)، وكان يقصد أنه لولا النيل لما كانت هناك حياة في مصر، لذلك ظلت قضية المياه هي أساس التعامل بين البلدين والتي يعني المساس بها أو الاقتراب منها بعيداً عن السياسة المصرية المحددة تعدٍ على الدولة المصرية .
سبب الأزمة الدائم بين البلدين كان هو المياه، وقد نجحت القيادة المصرية خلال فترة حكم الرئيس الراحل “جمال عبد الناصر” من إقناع حكومة الفريق “إبراهيم عبود” ورفاقه الأبرار بالتنازل عن قطعة عزيزة من الوطن هي مدينة “وادي حلفا” وما حولها التي أُغْرِقت من أجل بناء السد العالي وأصبحت جزءاً من بحيرته الواسعة العريضة مثلما أصبحت جزءاً من التاريخ، وهذا تسبب بشرخ كبير في العلاقة بين البلدين خاصة لدى قيادات ومنسوبي الأحزاب العقائدية وغير الاتحادية ولدى النخب وعموم الشعب النوبي السوداني، ولكن قبل ذلك بقليل وقبيل حكم الرئيس “إبراهيم عبود” كان الجيش المصري قد دخل إلى منطقة حلايب الأمر الذي دعا رئيس الوزراء في ذلك الوقت – 1958م- الأميرالاي عبد الله خليل إلى استنفار الجيش وتحريكه نحو المنطقة، إلا أن الرئيس “عبد الناصر” أستدرك مخاطر تلك المواجهات وربما وضع في حساباته ما يمكن أن يكون عليه موقف السودان مستقبلاً من قضية السد العالي، فانسحب الجيش المصري ولم تحدث المواجهة، ليصبح للأزمة ساقان تمشي عليهما دائماً هما ساق المياه وساق حلايب.
رحلة بروفيسور “غندور” كانت محددة الأهداف، وقد تعامل “غندور” في “القاهرة” بالمنطق والحكمة مع قليلِ عزفٍ على أوتار العاطفة وكلا الأمرين مطلوب، ونرى أن نتائج زيارة وزير خارجية السودان بروفيسور “غندور” إلى مصر ولقائه بوزير خارجيتها السيد “سامح شكري” ثم اجتماعه المطول بفخامة الرئيس المصري المشير “عبد الفتاح السيسي”، ستظهر للعلن قريباً، نتائج تخدم الطرفين وتعمل على معالجة آثار الماضي بالانفتاح والتداخل الشعبي من الجانبين، والعمل على بلورة المفاهيم الجديدة المرتبطة بالمصالح في قوانين تخدم تلك الأهداف السامية القائمة على المصالح المشتركة والمتبادلة، وربما من هنا جاءت دعوة “غندور” لإحياء برلمان وادي النيل.