بعد ومسافة
المفاصلة.. وشطرنج السياسة!
مصطفى أبو العزائم
أقلام قليلة تناولت ذكرى أكبر مفاصلة في تاريخ الإسلاميين بالسودان، وبعضها استرسل في الكتابة عن تلك التجربة التي كادت أن تعصف بحكم الإسلاميين تماماً في الرابع من رمضان الذي وافق الثاني عشر من ديسمبر 1999م، مثلما فعل الأستاذ “الهندي عز الدين” والذي كان يملك بعض المعلومات حول الخلاف بين القصر والمنشية، وتملك معلومات أخرى لاحقاً، خاصة وأن الذين يلمون بكل التفاصيل قلة قليلة، بعضهم قضى نحبه ومنهم من ينتظر.. ولا أزعم أنني كنت قريباً من تفاصيل الحدث الخطير، فالذي أعلمه أن التفاصيل لدى قلة قليلة كما أشرنا لذلك من قبل، كما أن مفاتيح الأحداث كانت في أيدي مجموعة عملت على إقصاء الشيخ “الترابي” رحمه الله – وتثبيت قواعد حكم الرئيس “البشير” ومن بين تلك المجموعة ساعداه الأيمن والأيسر في الجيش العميد وقتها “بكري حسن صالح” و”عبد الرحيم محمد حسين” مع مواقف مشهودة لعدد من قيادات جهاز الأمن والمخابرات في مقدمتها “صلاح عبد الله محمد صالح” المعروف بـ(صلاح قوش). وقد ذكر لي أحد أقرب المقربين – حالياً للسيد الرئيس “البشير” أنه ورغم التباين والاختلافات والخلافات اللاحقة التي ضربت علاقة الرئيس “البشير” بأقرب مساعديه ومستشاريه الأمينين وهو الفريق أول مهندس “صلاح قوش”، إلا أن الرئيس لا زال يحتفظ بود خاص له ويقدره تقديراً يليق بما قدمه للرئيس شخصياً، وللنظام بصفة خاصة.
أحيا البعض الآن ما سبق أن تردد من أن المفاصلة لم تكن أكثر من مجرد (تمثيلية) حتى تنتقل (الإنقاذ) إلى فصل جديد من فصول الحكم، يزيدها تمكيناً، ويفتح الباب أمام آخرين كانوا يرون في وجود الشيخ “الترابي” – رحمه الله – عائقاً أمام انخراطهم في النظام ومصالحتهم له.
بعض المقربين من الرئيس “البشير” صدموا من قرارات الرابع من رمضان، بل أن أحدهم احتج على ذلك بالصوت العالي وقال في حضرة كثيرين، إنه لن يقبل بذلك ولن يسمح بإبعاد الشيخ، وكان في قمة الانفعال والصدمة، حتى أن أحدهم قال لي إن الرئيس أوعز لأحد المقربين له وهو الفريق الركن مهندس حالياً “عبد الرحيم محمد حسين” أن يتابع فلاناً ذاك وأن يمنعه من القيام بأي تصرفات حمقاء حتى ولو اضطر إلى اعتقاله.
أحد الزملاء كان يعمل في المملكة المتحدة، وجاء إلى الخرطوم في تلك الأيام وسجل لي زيارة في مكتبي بالسوق العربي، وكان منفعلاً ولا يخفي ميله لمعسكر الشيخ والمنشية، ولما لم يجد مني تجاوباً وانفعالاً يتماشى مع توجهاته غضب وقال لي: إنني حددت موقفي بمساندة القوة ذات الشوكة، وشرحت له موقفي وقلت إنه لا علاقة لي بصراعات الإسلاميين على السلطة، فالذي يهمني كان هو استقرار الوطن، ووحدة أرضه، واحتفاظه بعلاقات حسن جوار مع جيرانه الأقربين والأبعدين وتحقيق سلام دائم يوقف حرب الجنوب، وإن هذا لن يتحقق حال أن ساندت أو ناصرت موقف الشيخ “الترابي” – رحمه الله – وقد كانت تلك هي قناعتي الخاصة مع احتفاظي بعلاقات جيدة مع كل العضوية الفاعلة في جانب المنشية.
التقيت خلال تلك الأيام بالشيخ الجليل الأستاذ “ياسين عمر الإمام” وكان بيننا ود خاص متبادل، استمعت إلى وجهة نظره ورأيه في ما يحدث، وأكبرت وقتها مساندته للشيخ “الترابي” انطلاقاً من علاقتهما التاريخية، ووفائه الشخصي للرجل، لا يشبهه في هذا الموقف إلا الشيخ الأستاذ “إبراهيم السنوسي” وعدد من شباب الحركة الإسلامية المتحمسين الذين أرادوا من حيث لا يدروا أن يحيلوا الحركة الإسلامية السياسية إلى طائفة جديدة، حتى وإن كانت تحمل صفة الطائفة السياسية، لكنها ترتبط فكراً وقيماً بالدين، وهو ما قد يقود مستقبلاً إلى إقصاء وعزل مخالفي الشيخ “الترابي” داخل الحركة.
خلال تلك الأيام كنت أكتب في صحيفة (الوطن) الغراء إبان رئاسة صاحبها ومؤسسها الأستاذ “سيد أحمد” رحمه الله – لتحريرها، وكان يرى في شخصي ما لا أراه ويصر على أن أتفرغ تماماً للعمل الصحفي بعيداً عن العمل الخاص والتعاون مع الإذاعة والتلفزيون، وقد نجح في إقناعي بذلك إلى حد بعيد، حتى أنه قدم اسمي نائباً لرئيس تحرير الصحيفة، إلى مجلس الصحافة والمطبوعات الذي وافق على ذلك في أول اجتماع له، وكانت المفاصلة هي حديث الناس الذي يشغل من بالداخل ومن هم بالخارج.
الصدفة وحدها جمعت بيني وبين السيد رئيس الجمهورية في مقر إقامته بالقيادة العامة، والمناسبة كانت اجتماعية خاصة، ترافقت إليها مع صديقي الدكتور “معز حسن بخيت” وعندما التقيت بالسيد الرئيس وتبادلت معه التحية والسلام، سألته (عن الحاصل) وذكرت له أن أقاويل كثيرة يرددها الناس، والحقيقة لا تبدو واضحة.
هنا أمسك السيد الرئيس بيدي، وكنت على يمينه والدكتور “معز حسن بخيت” على يساره وقال لي، ما تسمع حاجة ما تمام.. تعال أوريك الحاصل شنو.. وتحركنا بعيداً عن حلقات التجمع داخل حديقة المقر، لأستمع لما لم يقله لي أحد حول المفاصلة، التي كانت بالحق صراعاً على السلطة ومحاولة لإقصاء الرئاسة والقصر عن مراكز اتخاذ القرار، كان الصراع ذكياً مثل صراع لاعبي الشطرنج.. لكن اللعبة انتهت بـ(كش ملك).. عندما تم حصار الشيخ “الترابي” – رحمه الله – في مربع أحيط بالطابية والرخ وكثير من الجند تحت سمع وبصر الوزير.