بعد ومسافة
الحرب القادمة بين (الخرطوم) و(جوبا)
مصطفى أبو العزائم
ظللت على الدوام أقول وأعيد وأكرر من خلال الاستضافات في الفضائيات المحلية أو العربية، ما أؤمن به من قناعات حول علاقة السودان بالدولة المنشقة عنه والتي لم تستطع حتى الآن أن تفك ارتباطها به، وظلت تحمل اسم دولة جنوب السودان، حيث أقول دائماً بحتمية الحرب بين الدولتين مستنداً على أسباب موضوعية يمكن تلخيصها في أن دولة جنوب السودان لا تملك من مقومات الدولة ما يعينها على الانطلاق، خاصة في مجال هياكل الإدارة والحكم، رغم التدريب الذي تلقاه عدد من أبناء دولة جنوب السودان داخل السودان قبيل الانفصال، أو خارج السودان، لكن كل تلك الكوادر أصبحت مشتتة لا تجد هياكل حكم وإدارة تنظم خبراتها ومعارفها لتصب في صالح بناء دولة حديثة.
وهناك أيضاً عداء مستحكم تجاه شمال السودان والشماليين من قبل عدد من أبناء جنوب السودان منذ أن كان السودان دولة واحدة، خاصة أولئك الذين حملوا السلاح وتمردوا على أنظمة الحكم المختلفة في السودان منذ تمرد توريت الأول عام 1955م، وإلى اللحظة التي حان فيها الانفصال وأصبح أمراً واقعاً، ويعلم الجميع كمية وحجم الشحن السالب الذي عبئت به العقول والقلوب خلال سنوات الحرب حتى لم يعد فيها ما يمكن أن يحمل وداً تجاه كل ما هو منسوب للشمال، حتى وأن كان هجيناً يجمع بين الشمال والجنوب.
الأمر الثالث يقوم على ما سبق من أحقاد خاصة بين القيادات التي أحكمت قبضتها على مقاليد الأمور، والتي تمثل الكوادر المقاتلة داخل الجيش الشعبي لتحرير السودان أو التي تمثل الكوادر السياسية داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان، وذلك من خلال تبني ذات الطرح والفكر الذي أسس له زعيم الحركة الراحل العقيد “جون قرنق” لدى مجموعات كانت جزءاً من حركة التمرد على الحكومة الحالية وما سبقها، وعندما حدث الانفصال أطلقت على نفسها ذات الاسم الذي تحمله الحركة في دولة جنوب السودان، لكنها زادت عليه كلمتي (قطاع الشمال) لتؤكد أنها امتداد لذات الحركة وذات الجيش، مما يعني أن (جوبا) التي ترعى هذا القطاع في حالة حرب مع نظام الحكم القائم في السودان، وهذا أحد أبرز مؤشرات حتمية الحرب القادمة بين الخرطوم و(جوبا) رغم محاولات الساسة إظهار الضغائن والأحقاد القديمة المتجددة.
أما الأمر الرابع الذي يجعلنا نتمسك بحتمية الحرب بين السودان وشقه المنفصل، فهو حالة الانهيار التي تعاني منها دولة جنوب السودان، وحالة الإقصاء التي واجهها عدد من قيادييها أمثال الدكتور “رياك مشار” الذي كان يمثل على عهد “قرنق” رمزية وجود النوير داخل الحركة الشعبية، وأمثال “باقان أموم” الذي كان يمثل ثقل المجموعة القبلية الثالثة في جنوب السودان وهي قبيلة (الشلك)، غير مجموعات كانوا يمثلون القبائل النيلية وجدوا أنفسهم خارج دوائر اتخاذ القرار الذي أصبح في يد الرئيس “سلفاكير” وقلة من أخلص المخلصين له من أبناء قبيلة الدينكا التي أصبحت تقبض على مفاتيح التحكم داخل القصر الرئاسي وفي قيادة الجيش رغم ما لاح من بوادر لانهيار الدولة وزوالها.
والأمر الخامس يقوم على الرابع، وهو نتائج هذه الحرب الأهلية الطاحنة والتي تدفع بالضحايا نحو بوابات الخروج بحثاً عن الأمن والسلام حتى وأن كان ذلك في معسكرات اللجوء، وأكثر اللاجئين اتجهوا شمالاً باتجاه البوصلة الاجتماعية إلى حيث الوطن الأم، وهو ما يشكل مأزقاً نفسياً لحكومة “سلفاكير” ويجعل القائمين بالأمر يتصرفون وفق ردود فعل نفسية وهواجس وشكوك عن دور (الخرطوم) في تجنيد الملايين الزاحفة ليشكلوا جيوشاً ضد نظام الحكم الفاسد في دولة جنوب السودان.
(جوبا) لن تتصرف وحدها ولا بد لها من أن تستعين بصديق للدخول في حالة حرب مع (الخرطوم).. الحركة الشعبية قطاع الشمال أضعف من أن يعتمد عليها، وكذلك حركات دارفور المسلحة التي تلاشت أو كادت ولم يعد لها مكان في ميادين القتال، لذلك تم التنسيق مع ما تبقى من فلول لتلك المجموعات المسلحة للقيام بهجومين متزامنين بدعم مباشر من حكومة دولة جنوب السودان، أحدهما يأتي من ليبيا مدعوماً من اللواء “حفتر”، ويستهدف ولاية شمال دارفور، والثاني من دولة جنوب السودان ويستهدف شرق دارفور، لكن هذا المخطط وغيره ما كان ليفوت على قواتنا المسلحة ولا على قوات الدعم السريع التي أضحت هاجساً بعد أن أذاقت المتمردين مرارة الهزيمة في أكثر من ميدان.
الآن الدعوة إلى الحرب وخوضها أصبحت أكثر ضرورة للحكومة الفاشلة في دولة جنوب السودان، لسببين الأول هو صرف أنظار المواطنين في داخل الدولة التي تعاني ويلات الحرب، عما يحدث هناك وتعليق الفشل في رقبة حكومة الخرطوم، أما السبب الثاني فهو جرجرة السودان إلى حرب ضروس قبيل انعقاد مهلة الستة أشهر المرتبطة بالرفع التام للعقوبات الأمريكية عن السودان في يوليو القادم، وذلك حتى تظل العقوبات قائمة لتقوم (جوبا) ومن خلال أذرعها في الحركة الشعبية (قطاع الشمال) بإملاء شروطها التي تعمل وتسعى وتهدف إلى الإطاحة التامة بنظام الحكم القائم الآن في السودان.
لن تهدأ الأمور ولن تستقر الأوضاع إلا بتغيير أحد النظامين، ولكن القراءة الموضوعية للأوضاع تقول إن الكرسي يهتز تحت “سلفا”، بينما نظام الخرطوم ثبَّت قوائم جديدة تمنع الهزات من خلال الحوار الوطني ومخرجاته وإعلان حكومة الوفاق الوطني التي استوعبت الجميع بمن فيهم بعض أصحاب الرؤى السياسية القاصرة أو.. المريضة.