البروفيسور "حسن مكي" في حوار فوق العادة مع (المجهر) (1-2)
“بدرية سليمان” نفذت طريقة “الترابي” وأمّت النواب في البرلمان وهم (ما قادرين يؤذنوا)
الخدمة المدنية في السودان فُصّلت لخدمة الحاكم والمسؤولون يستبيحون المال العام
(الشعبي) يعاني من صراع مجموعات تضم (منفيين.. مسجونين ومأزومين)
مقدمة
بروفيسور “حسن مكي” المفكر الإسلامي البارز والخبير في شؤون القرن الأفريقي، أهم ما يميزه آراؤه الواضحة والمباشرة في مجمل قضايا الساحة سواء أكانت سياسية أو فكرية أو حتى فقهية التي كثيراً ما تقابل بالتحفظ من جانب بعض القيادات السياسية والتنظيمية في الحركة الإسلامية السودانية رغم ذلك ظل البروف يطلق تلك الآراء باستمرار دون تحفظ.
(المجهر) جلست معه في حوار فوق العادة، تحدث فيه عن السياسة السودانية ومستجداتها ممثلة في الحوار الوطني وحكومة الوفاق الوطني والحركة الإسلامية، مقيماً من خلال حديثه تجربة الإخوان المصريين في الحكم إضافة إلى آرائه حول العلاقات السودانية المصرية.
يبدو “مكي” في هذه الجزئية التي حاولنا من خلالها تقصي العمق القريب للتأثيرات الداخلية والخارجية على البلاد والحراك الإسلامي عن طريق الاستقطاب والاستقطاب المضاد والاحتشاد العسكري للدول والجماعات الجهادية، يبدو غير متفائل بسبب ما وصفه بـ(ضبابية الأحداث).. فإلى مضابط الحوار.
حوار ــ مهند بكري
{ ما تقييمكم لمحصلة الحوار الوطني وما انتهى إليه بتشكيل حكومة للوفاق الوطني؟
_ كلمة الحوار كلمة طيبة وكلمة قرآنية، لكن الحوار تم بين طرفين متشابهين، وللأسف الشديد المجموعات المحاربة للحكومة أو التي تحمل السلاح المسببة للأزمات الكبرى للسودان سواء أكان مجموعة النيل الأزرق أو جبال النوبة أو مجموعات دارفور لم تدخل هذا الحوار، أما المسألة الثانية فهي أن الحوار نفسه كان مبادرة من دكتور “الترابي” وهو من وضع معالم الطريق لهذا الحوار، لكن يبدو لي أنه تأخر قرابة الثلاثين عاماً هي فترة حكم الإنقاذ، والإنقاذ تتكلم عن دستور دائم للبلد، ولا أدري هل هنالك قناعة بالكلام عن الحريات والديمقراطية أم لا.. أنا في تقديري الحكومة الحالية لا تملك قناعة بقضايا الحريات والديمقراطية لأنها يغلب عليها الطابع العسكري.
{هل هذا عيب؟
_ أبداً ليس عيباً، يعني طالما أنها حكومة يغلب عليها الطابع العسكري الأمني، أعتقد أن الحوار كان لابد أن يركز على المسألة الاقتصادية، إذا كانت الحريات التي يتكلم عنها الناس هي النسخة الغربية تصبح هذه ليست لها مجال الآن في السودان لا في الإنقاذ ولا في غير الإنقاذ، لأن تركيبة الدولة السودانية نفسها تركيبة صناعة عسكرية.. كل نظام يأتي ليعيد إنتاج ذلك من الداخل، لأن الدولة السودانية خرجت من رحم الجيش الإنجليزي الغازي وحاربت حروب إنجلترا إن كان في شرق أفريقيا أو شمال أفريقيا، ومن رحم قوة دفاع السودان أو الجيش السوداني جاء مشروع السودان ومشروع الجزيرة، وجاءت “كلية غردون التذكارية” والتعليم، لذلك الآن الناس حينما يتغنون بأمجاد الجيش السوداني إنما يتغنون بأمجاد إنجلترا.. السودان لم يكن له مصلحة في حرب (كرن ـ أو شمال أفريقيا وغيرها من الحروب).
{ لكن الإنجليز تركوا نظام للخدمة المدنية؟
_ الخدمة المدنية في السودان مشكلة بطريقة أنها تخدم الأمير أو الرئيس أو القائد لأن الدولة السودانية صنعتها الإدارة الإنجليزية وصرفت عليها الإدارة المصرية، وكانت تسمى دولة المفتشين المآمير، فدائماً رئيس الدولة هو حكمدار أو قائد الجيش المصري سوداني يعني ومفتشين و(مآمير) وإلى الآن الخدمة المدنية كلها قائمة على هذه المسألة.
{ هل تعتقد أن الحوار أغفل قضية محددة كان ينبغي أن يعالجها؟
_ كنت أعتقد أن الحوار سيناقش مسألة الفساد في السودان وهذا ما لم يتم، لجهة أن الفساد هنا يصعب تعريفه.. وفي السودان الآن أي قرار يتخذه رئيس الدولة أو الوالي أو المعتمد يعدّ قراراً له مشروعية، لأن فكرة المحاسبة والمال العام بعيدة، والسودان لا زال يحكم بطريقة الخلفاء لأن المسؤولين يستبيحون مال الدولة لذلك يصعب تعريف الجريمة الاقتصادية، وكنت أتمنى أن يوضح لنا الحوار الجريمة الاقتصادية التي يحاسب بها رئيس الدولة أو الوزير حتى يرشد اقتصاد الدولة، أما القضية الثالثة فهي قضية أزمة العطالة التي لم تناقش رغم وجود عطالة في كل بيت، فمثلاً قضية توظيف خريجي الجامعات لو أن مؤتمر الحوار الوطني اتخذ قراراً بتوظيف كل الخريجين، كان ذلك سيساهم في حل الأزمة، لكن أعتقد أن الرئيس “البشير” فعل شيئاً إيجابياً عندما تحدث عن أن هناك ميزانية مفتوحة لتوظيف الأطباء، وأتمنى أن ينفذ هذا القرار أو يتابعه الرئيس شخصياً، وكنت أتمنى أن يكون هناك سجل لكل الجامعيين غير العاملين سواء أكانوا مهندسين أو أطباء خريجي كليات نظرية ويمكن استيعابهم في القطاع العام أو الخاص أو توفير فرص عمل خارج السودان حتى لا يكون هنالك عاطل في البلد، وتوجد قضية تدهور قيمة الجنيه السوداني أو تعويمه وهنالك قضايا كبرى لم تناقش.. يبدو لي أن الحوار الذي تم نقاش بطريقة تشعرنا كأننا نعيش في عام (88) أي عهد ما قبل الإنقاذ مع الحزب (الفلاني والحزب العلاني)، وقضايا توزيع السلطة ومن يكون وزيراً ومن لا يكون، من أُعطي الوزارة رضي ومن حرم من الوزارة سخط..
كذلك تم تجاهل الأوضاع الأمنية في الكرمك وجبال النوبة، وحركة قطاع الطرق في دارفور، والأوضاع المعيشية للسودان، وما قيل كان كلاماً نظرياً لنخب سياسية.. الصراع الآن في السودان أصبح أقرب لصراعات الشخصنة في أي مجال، اتحاد الكرة، الهلال والمريخ، لكن القضايا الكبرى تراوح مكانها.. على أي حال اسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق للحكومة الجديدة رغم إحساسي أنها لن تعيش طويلاً، لكن اسأل الله أن يمتد هذا الحوار وتدخل فيه الجبهات المحاربة ويستطيع أن يناقش القضايا الكبرى.
{ موقف المؤتمر الشعبي وتبعات التصاعد الناجم عن قرار المشاركة في الحكومة؟
_ بالنسبة لموقف المؤتمر الشعبي، والله الواحد متعاطف مع الدكتور “علي الحاج” لأن الشعبي يضم أسماء ضحت تضحيات كبيرة، ولديهم اعتقاد أنهم ساهموا في مجيء الإنقاذ، فإذا كان نصيبهم من السلطة والثروة وزارتين ووزير دولة ومنصبين دستوريين فهذا الأمر قاد إلى وضع صعب داخل الشعبي لأن الحزب يضم ثلاث شُعب، شعبة المنفيين الذين كانوا في المنفى بأوروبا وأمريكا، وشعبة الذين كانوا في السجون وقضوا عشرات السنوات، وشعبة المفصولين والمأزومين بالإضافة إلى شعبة الشيوخ، لذلك فقيادة هؤلاء كلهم مسألة صعبة.
{ هل كان هناك حل آخر؟
_ أفتكر كان الحل أن يندمج الشعبي والوطني في حزب واحد، وأن تتاح فرص وظائف وسيطة لشباب الشعبي لأن الوظائف الدستورية التي منحت للأحزاب لن تحل مشاكل البلد، وأصلاً مسألة إتاحة الحريات غير واردة مثلما قلت سابقاً، والشعبي سيضيع وقته بكلام عن الحريات دون فائدة والصراع الآن كله يدور حول السلطة والوظائف.. والوظائف نفسها وظائف بائسة يعني ماذا يعني أن تكون عضواً في البرلمان، المرتب حوالي (200) دولار وصوت ضائع بين (300) عضو.. وعلى أي حال إذا كان هناك من تحية فأنا أحيي الأستاذة “بدرية سليمان” لأنها أهم شخصية في البرلمان وهي طبقت كلام “الترابي” في أن المرأة يمكن تؤم الرجال، وهي الآن بجدارة تؤم أعضاء المجلس الوطني وهم غير قادرين أن يؤذنوا أو يقيموا الصلاة أمامها، فهي الإمام والمؤذن والمقيم للصلاة، ومن هذا تظهر لك المشكلة.
{ كيف تنظر إلى النهايات التي تمضي نحوها العلاقات السودانية الأمريكية.. وموقع السودان من الاستقطاب والاستقطاب المضاد بالمنطقة العربية والأفريقية؟
_ في اعتقادي أن العلاقات السودانية الأمريكية في تطور والإدارة الأمريكية الآن لا تهتم بقضايا حقوق الإنسان والحريات كثيراً.. القضايا موجودة على الأجندة ولكن ليست الأساس في العلاقات بينها، والسودان بعد دخوله في المعسكر الخليجي سيكون حظه كبيراً في رفع العقوبات، وفي تقديري بنهاية العام الجاري لن تكون هناك أزمة في الملف السوداني لدى الجانب الأمريكي.
{ ماذا عن وموقع السودان من الاستقطاب والاستقطاب المضاد بالمنطقة العربية والأفريقية؟
_ السودان أصلاً دولة هامشية، يعني ليست إحدى الدول المؤثرة في الخارطة العالمية وفقاً لما كان يدور في أوقات سابقة ونظريات معروفة وفق توجهات الدول ذات النفوذ الأوروبي، وأتاحت له الظروف أيام حرب الأيام الستة مع مصر أن ترتفع أسهمه ليصبح السودان الحديقة الخلفية لمصر، والحل الذي صنعه السودان لمصر مع الدول العربية وأدخلها في الإطار الجديد السعودية ودول الخليج، لكن الآن السودان ينبغي أن تكون لديه دبلوماسية هادئة.
{ كيف تنظرون لمستقبل ليبيا وتطور الأوضاع هناك في ظل الحديث المتزايد عن “داعش” بما يوفر مبررات التدخلات الخارجية تحت مضلة الحرب على الإرهاب؟
_ في النهاية ليبيا ستظل متماسكة لأنها تختلف عن إثيوبيا، ليبيا شعبها صغير “ستة ملايين”، كلهم مسلمون وكلهم عرب رغم أن بعضهم في الكفرة وغيرها يعرفون بالبشرة السوداء، والسلاح منتشر، وهناك توازن قوى أعتقد سيأخذ وقتاً، لكن في النهاية ليبيا دولة غنية ولها موارد نفطية وغيرها من الموارد وتتمتع بمناخ البحر الأبيض المتوسط، وحال انسحاب التدخلات الخارجية الدولة الليبية ستعود، وأمامنا أمثلة خاصة وأن الدولة التونسية الآن قائمة، والدولة الجزائرية شبه قائمة أيضاً، والدولة المصرية موجودة.. في النهاية الصراعات ستأخذ وقتها وسيصلون إلى معادلة تستوعب المليشيات والجيوش ومجموعات “القذافي” والقبائل دون إقصاء لأي فريق.
{ ماذا عن “داعش”؟
_ “داعش” مخلوق فيه أناس أتقياء أصفياء لديهم أشواق للجهاد، وفيه تدخلات خارجية من قبل أجهزة استخبارية عالمية تريد أن تجعل قضية “داعش” والإرهاب مطية تصنع التفلتات الداخلية في بعض البلدان بالمنطقة، وكذلك إحداث فراغ سياسي نتاجاً لفشل الأنظمة السياسية الموجودة.. والتدفق العسكري الأمريكي في العراق، والتدخل الإيراني في سوريا والعراق، والتدخل الروسي في سوريا يبين لنا أن البيئة والفراغ السياسي يولدان هذه الظواهر الموجهة.