ابيي…ارض المراعي والبترول التي ارقت مضاجع الشمال والجنوب
تفاصيل رحلة (ايام الله السبعة) (1)
مراقب بـ”يونيسفا”: دولة الجنوب تنفذ مشروع توطين ضخم بأبيي
تناقص أعداد الماشية بسبب حقول البترول وتغولها على المراعي والعمدة “يحيى جماع” يشتكي: الماشية أصحبت مصدر شقاء وتعب
الخرطوم ـ سيف جامع
في وقت انشغلت فيه الحكومة والكيانات السياسية بقسمة المناصب والنفوذ، فإن تحدياً كبيراً ينتظر الحكومة حيال التعامل مع ملف قضية أبيي المتنازع عليها مع دولة جنوب السودان. فالمثلث الإستراتيجي الغني بالنفط، الممتد في مساحة أكثر من (4) آلاف ميل مربع، يواجه إهمالاً كبيراً ويحتاج عزيمة من الدولة لتأكيد هيمنتها عليه، لا سيما في ظل تنامي مطامع دولة الجنوب في المنطقة. ويتضاعف التحدي حال اتجه التحكيم الدولي إلى تنظيم استفتاء مباغت لحسم تبعية المنطقة، واستبقت جوبا ذلك بتنفيذ خططها لبسط هيمنتها على الأرض من خلال توفير الخدمات، والعمل على إغراء المواطنين هنالك.. وفي رحلة (المجهر) التي امتدت لسبعة أيام إلى أبيي، برفقة عدد من المنظمات الطوعية بقيادة المدير العام لمؤسسة عمليات التنمية “نواي إسماعيل الضو” رصدت أهم ما يدور فيها من حراك اجتماعي واقتصادي وسياسي من قبل “المسيرية” و”دينكا نقوك”.
تحركنا، كوفد، (الجمعة) قبل الماضية على متن خمس من سيارات الدفع الرباعي، ووصلنا أبيي بعد رحلة طويلة امتدت يومين، بدأت من الخرطوم ثم مدينة الفولة، قبل أن نتوجه في اليوم التالي إلى أبيي، مروراً بمدينة المجلد.. وكانت سيارات الدفع الرباعي تطوي الرمال الممتدة على مساحة شاسعة من الأرض غطتها الغابات من كل جانب، لكن اللافت للنظر، هو بداية العمل في سفلتة طريق (الفولة – بابنوسة – المجلد)، وكذلك وجود الطرق المعبدة غير المسفلتة بمنطقة أبيي.
منطقة أبيي، تقع في مساحة تضم (46) قرية، (32) منها مستقرة والأخرى يتنقل أهلها الرعاة في فترة الصيف بحثاً عن الماء والكلأ.. هذا التنقل مع الماشية يمثل أهم المشكلات التي تواجه المنطقة والمواطنين. أما أييي المدينة، فتبعد حوالي (5) كيلومترات من الخط الصفري، وفقاً لحدود (1956م) وغالبية سكانها من “دينكا نقوك”، وبعض الشماليين.
وصلنا في اليوم الثاني من الرحلة إلى منطقة أبيي، التي بدت منذ الوهلة الأولى كأرض بكر خصبة، فما من مساحة أو شبر من الأرض إلا وغطته أشجار الطلح وأشجار السافنا الغنية.. وبالنقيض من ذلك، كانت المنطقة خالية تقريباً من السكان والقرى، عدا الفرقان المنتشرة داخل الغابات، وقد استقر بنا المقام في الدائري الجنوبي، أو منطقة (دفرا) سابقاً، وهو سوق وملتقى طرق وقرية صغيرة أيضاً، يوجد بها مقر عدد من المنظمات الوطنية، وكذلك منظمة (فاو)، وهيئة التأمين الصحي.
كانت منطقة قولي بأبيي أولى محطات برنامج الرحلة، وهي قرية صغيرة ترتكز بالقرب منها بعثة (يونيسفا)، كما أنها ليست بعيدة عن أبيي المدينة، وفيها اصطف أهالي المنطقة لاستقبال الوفد حيث تم افتتاح برنامج الزيارة بحضور لافت للشباب والمرأة. وفيها بدأت الورش التدريبية للمدربين “الحارث عجب” و”همام مصطفى” من الأكاديمية الوطنية للتدريب، ما يؤكد على تلقائية البرنامج. وقد تحدث ممثل شباب قولي “عبد الخالق إبراهيم”، الذي أكد أهمية توفير الخدمات للمساهمة في استقرار المواطنين بالقرية الإستراتيجية، نسبة لقربها من أقرب منطقة تشهد تعايشاً سلمياً بين “المسيرية” و”دينكا نقوك”، وهي منطقة سوق الزراف التي سنتحدث عنها في محور آخر بالتفاصيل.
وفي منطقة قولي شكا المعلم “إبراهيم موسى إبراهيم” من نقص حاد في مياه الشرب، مشيراً إلى أن الطلاب يأتون من مناطق تبعد مسافة (15) كيلومتراً.
العمدة “يحيى جماع” أحد قيادات الإدارة الأهلية بأبيي، كان حريصاً على مرافقة الوفد طوال أيام الزيارة، وفي كل أحاديثه وكلماته أمام المواطنين خلال ستة لقاءات كان يحث المواطنين على ضرورة التعايش السلمي مع “دينكا نقوك”، كما قال لـ”المسيرية” إن عليهم القبول بالآخر، والترحيب بالضيوف وإحسان معاملة من يزورون المنطقة لعكس صورة مشرقة لـ”المسيرية”، بدلاً عن صورة الحرب والدمار التي رسخت لدى المواطنين، وأضاف: (كفى.. طعن الشخص أخاه)، مؤكداً أن أبيي منطقة سودانية لكل القبائل دون تفضيل.
وشدد رئيس منطقة قولي “عبد الله أحمد السيد” على ضرورة أن يتحمل “المسيرية” “دينكا نقوك” مهما كانت أخطاؤهم، وتجاوز المرارات السابقة لجهة كونهم جسراً للتواصل، ونموذجاً للتعايش السلمي في المنطقة.
{ الشباب يخرجون الهواء الساخن
برنامج الزيارة استمر لمدة سبعة أيام، تلمس خلالها الوفد أهم احتياجات المنطقة التي عكستها شكاوى المواطنين من انعدام المياه وانعدام الخدمات الصحية، كما أن المنطقة بكاملها لا يوجد بها أي مستشفى، فضلاً عن غياب الخدمات البيطرية.
يقول الشاب “محمد مهنا” إن المنطقة تنقصها خدمات الصحة، مشيراً إلى أن الكثير من المواطنين يموتون بسبب ذلك النقص، لافتاً إلى أن التشخيص المتاح فقط هو لمرض الملاريا، وقال إن الحياة المعيشية في أبيي صعبة لحدود لا يمكن تخيلها، والماشية تناقصت أعدادها بسبب حقول البترول وتغولها على المراعي. وأكد “محمد” أن المنطقة تحتاج للخدمات قبل كل شيء، فتوفرها هو ما يحقق الاستقرار ويؤكد على تبعية أبيي للسودان.
أما الشاب “عادل سليمان” فأكد، من جانبه، أن المنطقة تحتاج إلى عمل توعوي وتنموي كبير لأهميتها وخاصيتها كمنطقة حدودية متنازع عليها. وحمّل الإدارة الأهلية مسؤولية تردي الحال في أبيي. فيما شدد “محمد هارون” على ضرورة الاهتمام بتطوير الإنتاج وعدم ملاحقة التجار بأبيي، مؤكداً أنها تزخر بفرص كبيرة في إنتاج الأسماك.
{ المواطنون يهتفون: (أبيي سودانية 100%)
مدير عام مؤسسة عمليات التنمية “نواي إسماعيل الضو” خاطب القيادات والشباب بالمنطقة، داعياً إياهم إلى تحديد احتياجاتهم، معلناً عن تبنيه مشروع نفير كبير لإعمار المنطقة، ودعم وتأكيد تبعيتها للسودان. وقال “نواي” للمواطنين إن أبيي ليست قضية “المسيرية” فقط، وإنما هي قضية كل السودانيين، وإنها سودانية (100%) ولا خلاف في ذلك. وهتف لدى مخاطبته ندوة للشباب بأبيي (سودانية 100%)، وردد معه الحضور الهتاف، وأعلن التزامه بتدريب عدد من شباب أبيي والوقوف مع كل من يسعى لخدمة أهله، كما أعلن عن إطلاق إذاعة أبيي وتدريب أبناء المنطقة لتولي أمرها.
ودعا “نواي” المواطنين إلى الاستقرار، وأضاف: (لا نطلب منكم أن تستقروا كلكم لأن الترحال عز العرب، والظروف وطبيعة المنطقة جعلت من ترحالكم حتمياً).
{ إشرافية أبيي والإدارة الأهلية في وجه العاصفة
الإدارة الأهلية وقيادات المنطقة من السياسيين واجهوا نقداً حاداً من بعض الشباب في ندوة (تعظيم حرمة الدماء) بمنطقة الدائري الجنوبي، لكن العمدة “يحيى جماع” كان أكثر حكمة وتقبلاً لآراء الشباب، حيث رد عليهم بأنهم إذا كانوا على خطأ فإنهم مستعدون لتحمل مسؤولية هذه الأخطاء، مشيراً إلى أن الإدارة الأهلية تعي دورها وتعمل على تحسين الأوضاع بالمنطقة، وأنها قامت بادوار كبيرة، على حد قوله. وأكد أن إشرافية أبيي والقيادات السياسية لا ينبغي أن يهضم دورها فيما تقدمه للمنطقة.
وحث منسق مشروع تعظيم حرمة الدماء “محمد آدم عبيد الله” الحكامات على عدم تأليب الرجال وحضهم على القتال، داعياً المرأة إلى الاهتمام بالتعليم والتمكين من العلم، منوهاً إلى إلزامية التعليم لإحداث التغيير في المجتمع، وقال: (ما عاوزين شاب يسن سكينه، ويحمل عصاه للقتال، وإنما نريدكم أن تحملوا الأقلام للتعليم وإقامة المدارس القرآنية).
{ استيطان جنوبي في الخفاء
يبدو أن حل اللجنة المشتركة من جانب السودان أثر كثيراً في أداء الحكومة هنالك، وبالمقابل ظلت اللجنة من الجانب الآخر التابعة لحكومة الجنوب تعمل عملاً دؤوباً، واستطاعت استقطاب عدد من المنظمات الدولية التي وصل عددها إلى ست، نفذت مشروعات للجنوبيين شمال الخط الصفري.
وعدّ مراقب عسكري من الجانب السوداني في بعثة (يونيسفا) غياب لجنة الحكومة قد أدى إلى أن تقوم حكومة الجنوب بإنفاذ أضخم برنامج توطين للجنوبيين داخل أبيي غير “دينكا نقوك”، بينما “المسيرية” يترحلون في المواسم بسبب انعدام المياه والخدمات.
ويشير منسق برنامج حرمة الدماء “محمد آدم عبيد الله” إلى أن على الحكومة أن تقوم بتنفيذ خطة عاجلة لتوطين الأهالي، بجانب الاهتمام بأمر الدعوة في المنطقة وتأسيس مساجد ضخمة، وترغيب عدد كبير من الجنوبيين في الإسلام.
وفي زيارة لخلوتين بالمنطقة وهما خلوة الدائري وخلوة المقبول، رصدت (المجهر) عدداً قليلاً من الطلاب بهما، كما أنهما تفتقدان للكثير من المعينات.. وفي قرية “مكينيس”، أقيم احتفال كبير حضره مواطنون من القرى الأخرى بـ”مدرسة مكينيس المختلطة”، وفيه تحدث مدير التعليم بإشرافية أبيي الأستاذ “آدم الضي” حيث كشف عن أن المنطقة بكاملها يوجد بها ستة أساتذة فقط، بجانب سبعة أخرين من المتطوعين. وقال إن الطلاب يعانون في سبيل توفير الأدوات المدرسية والكتب والزي المدرسي نسبة لبعد المنطقة عن المكتبات، وأشار إلى أن الزي الذي يرتديه الطلاب وفرته منظمة (يونيسيف)، فيما قامت منظمة (قلوبال آند هاند) بأعمال الصيانة وتأسيس الفصول بعدد من القرى. وطالب “الضي” بتوفير الوجبات المدرسية.
وكذلك تحدث مفوض العون الإنساني بأبيي “بختان الدقم” عن زيادة كبيرة في أعداد اللاجئين الجنوبيين إلى أبيي بسبب الحرب، حيث يصل في اليوم حوالي (200) لاجئ معظمهم من الأطفال والنساء، وطالب المنظمات الوطنية بإغاثة عاجلة للمنطقة قبل الخريف.
{ الثروة الحيوانية.. الحال يغني عن السؤال
حسب العمدة “يحيى جماع” فإن أبيي تزخر بثروة حيوانية كبيرة تبلغ أكثر من (10) ملايين رأس، وهي في زيادة مطردة مما جعلها تمثل عبئاً ثقيلاً على المواطنين، كما قال، وأرهقتهم جسدياً ونفسياً بسبب الترحال للبحث عن الماء والكلأ، بالإضافة لمخاطر تعدي الحدود إلى داخل دولة الجنوب، وأضاف: (هناك من قتل وهلك بسبب الرعي).
واستطرد العمدة قائلاً: (هنالك متغيرات جعلتنا نفكر في ضرورة إيجاد بدائل لإدارة الثروة الحيوانية لأن “الناس شقيانة وتعبانة”)، وأشار إلى تراجع اهتمام الشباب بأمر الرعي واتجاههم للعمل في شركات البترول والذهب والقوات النظامية، ما جعل رب الأسرة يتولى وحده أمر الثروة الحيوانية. وذكر أن المنطقة تراجعت مساحتها بنسبة (45%) بسبب حقول النفط وبسبب الحواكير الزراعية. واقترح “يحيى جماع” في ورقة أعدها بعنوان (تحسين المعيشة عبر الثروة الحيوانية) ضرورة إقامة مشروعات وصناديق ادخار ومصانع أجبان وعلف حتى يستفيد المواطنون من الماشية، وكذلك تحسين السلالات.
ويقول أمين الشباب بالإنابة بحزب المؤتمر الوطني بأبيي إن على الحكومة السعي لتكوين حكومة مشتركة بين “المسيرية” و”دينكا نقوك” وقيام مجلس تشريعي خاص بقطاع أبيي، ومشاركة الشباب في مستويات العمل كافة التنفيذي والتشريعي، على مستوى المركز، وإعطاؤهم صوتاً في القضايا الوطنية كافة من أجل ترسيخ وتبعية أبيي للسودان.
وبعيداً عن إفادات نخب وقيادات منطقة أبيي تحدث لـ(المجهر) بعض المواطنين الذين التقينا بهم هنالك، حيث وجدنا معظمهم غير مقيم، وجاء إلى المنطقة بغرض التجارة خاصة في الأسواق، وعبروا عن خشيتهم من تدهور الأوضاع في أي وقت، في ظل انتشار السلاح وانعدام الثقة بين الطرفين.
– نواصل-