بعد ومسافة
يا عم “أحمد”.. مع خالص الود والاحترام
مصطفى أبو العزائم
“عم أحمد” هو أداة التعريف الدالة على المفكر والسياسي والسفير الراحل الأستاذ “أحمد عبد الحليم” مثلما هي دالة على الشيخ الجليل الأستاذ “أحمد عبد الرحمن محمد”، وفي وسطنا الصحفي يدل على صديقنا وزميلنا الأستاذ “أحمد الشريف عثمان” صاحب الكتابات المعروف ولكننا بـ(الياء) أعلاه إنما نخاطب الشيخ الجليل الأستاذ “أحمد عبد الرحمن محمد” ابن مدينة (بربر) التي جاءها أسلافه من أقاصي الشمال واستقروا بها، حيث تنشق هواءها، وتشرب حب أهلها وقيمهم وطبائعهم، وسعة صدرهم وقبولهم للآخر، فكان من أكثر منتسبي الحركة الإسلامية بالسودان، في مختلف مراحل تطورها، أحد رموزها اللامعة التي تمثل الانفتاح على الآخر، وربما كان لجذره السياسي الاتحادي علاقة بذلك الأمر، فقد كان للسيد “علي” وجميع آل البيت “الميرغني” قداسة في نفوس أهله، خاصة جدته التي تولت أمره، وقد أقام معها في (بربر) سنين عدداً، تشكلت فيها شخصيته، وتأثر أيضاً بشخصية خاله المعلم “الصايم” الذي عندما انتقل قي نهاية الثلاثينيات للتدريس بمديرية النيل الأزرق الكبرى، وفي مدارس حاضرتها مدينة ود مدني أخذه معه ليلتحق بالمدارس هناك، وكانت فرصته عظيمة للانخراط في مجتمع جديد، عرف فيه معاني الوطنية، وتعرف من خلاله على معنى مؤتمر الخريجين الذي قام وتأسس بمبادرة من الأستاذ “أحمد خير” المحامي عام 1938م، بتلك المدينة.
غادر خاله “الصايم” المدينة دون أن يخطر أحداً بذلك إلا بعض المقربين، وقال لابن شقيقته التلميذ “أحمد محمد عبد الرحمن” ألا يفصح بأية معلومات حول اختفائه، وكان الخال قد غادر إلى القاهرة.. للالتحاق بجامعاتها حتى يحصل على شهادة عليا، وكان السفر ممنوعاً بل محرماً في تلك الفترة إلى مصر من قبل السلطات البريطانية الحاكمة التي عرفت تأثير (القاهرة) وقتها على طلاب العلم في الجامعات المصرية، وأثرها في التأسيس لمجموعات سياسية يسارية تتمثل في الحزب الشيوعي السوداني، وأخرى يمينية تتمثل في جماعة الإخوان المسلمين الذين كان أكثرهم حتى ذلك الوقت (أهل دعوة) فقط يعملون تحت رايات الحزب الوطني الاتحادي.
انتقل عم “أحمد” إلى أم درمان، وأقام في قلب المدينة، وأغرم بالسينما وكرة القدم، جاء إلى المدرسة الأهلية الوسطى يحمل معه ذكريات مدينة ود مدني التي تعرف فيها لأول مرة على “جعفر محمد نميري” ذلك الفتى الرياضي صديق خاله “الصايم”، وفي مدرسة أم درمان الأهلية الوسطى اجتذبته حركة الإخوان المسلمين، فانضم إليها، وكان متقدماً في دراسته، وعندما جلس لامتحانات لجنة القبول في المدارس الثانوية تم قبوله في مدرسة أم درمان الأهلية الثانوية، وكان ضمن أول دفعة تم قبولها بالمدرسة التي تمثل قيمة تاريخية ووطنية عظيمة، وكان القبول في المدارس الثانوية يضمن مستقبل المنضمين إليها، لكن طموح الفتى المتأثر بخاله جعله يفكر في مواصلة تعليمه العالي، وقد فعل.
عاش عم “أحمد” كل مراحل الصراع على السلطة في السودان، وكان من مؤسسي الجبهة الوطنية التي قاومت نظام الرئيس الراحل “نميري” ثم كان ضمن طاقم المصالحة الوطنية، وأصبح وزيراً للشؤون الداخلية، وهو شاب صغير السن، بعد فترة اغتراب أو نفي اختياري في المملكة العربية السعودية الشقيقة، وكان قريباً ومقرباً من الشيخ الدكتور “حسن عبد الله الترابي” ومسانداً له عندما انقلب على القيادات التقليدية في الحركة الإسلامية، وظل يقول دائماً أن “الترابي” لم يكن في يوم من الأيام عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، وقد سمعتها منه أكثر من مرة.
أسعدني قدري أن أكون قريباً من عم “أحمد” الشيخ الورع الزاهد والمفكر الهادئ والسياسي العاقل، وحاورته عدة مرات للصحف والتلفزيون والإذاعة، آخر تلك الحوارات بثتها على مدى شهر كامل إذاعة (بلادي) ضمن برنامج توثيقي أعده وأقدمه من خلالها موسم بـ(صفحات من بلادي) كانت أول أربع حلقات منه مع الشيخ الجليل الأستاذ “أحمد محمد عبد الرحمن” عم “أحمد”.
بالأمس تم تكريم عم “أحمد” من قبل لجنة قومية عليا، تقديراً لأدواره الوطنية العظيمة وعطائه الوظيفي والمهني المتميز بالتضحية، بتشريف السيد رئيس الجمهورية سعادة المشير “عمر حسن أحمد البشير” بقاعة الصداقة، كما حملت الدعوة، وقد تلقيت أكثر من دعوة للمشاركة في هذا الحفل العظيم، أولاها من الأخ الكريم والصديق العزيز الشيخ “محمد أحمد أبو قصيصة” والتي وجهها إلى علماء ومشايخ الطرق الصوفية وإلى جماعة أنصار السنة المحمدية ولأعضاء مجمع الفقه الإسلامي، وأعضاء هيئة علماء السودان، ولكل أعضاء ومنسوبي الحركة الإسلامية ولأهل القبلة ليكونوا شهوداً على هذا التكريم الذي دعت له اللجنة العليا التي يترأسها ابن نهر النيل البروفيسور “أحمد مجذوب أحمد”.. وكنت قد حزمت وعزمت على المشاركة وأن أتشرف بأن أكون مع هذا الرجل العظيم في هذه المناسبة العظيمة التاريخية كأنني من أهله – وأحسب أنني كذلك – لكن أمراً خاصاً ودواع أسرية اقتضت أن أكون في الخرطوم مساء أمس (الأحد).. فعذراً يا والد الجميع وعمهم وخالهم وأخيهم – كما قال “أبو قصيصة” الشيخ الجليل “أحمد عبد الرحمن محمد”.. حتى وإن غبنا عنكم فقلوبنا معكم.. وفقكم الله وبارك لكم في عملكم وكسبكم وتقبل صالح الأعمال ومنكم أيها الشيخ الجليل عم “أحمد”.