رأي

بعد و مسافة

الشيطان يحكم..!
مصطفى أبوالعزائم

من أعمق الفصول التي أعجبتني بكتاب (الشيطان يحكم) للمفكر الراحل د.”مصطفى محمود” الفصل بعنوان “لماذا الملل!؟ ” “حضارة اليوم طابعها الملل”
الحب يولد ليموت والمرأة طبق شهي لوجبة واحدة ثم يصفق القلب طالباً تغيير الطبق.. العين تمل واللسان يمل والمعدة تمل.. الأسطوانة تكتسح السوق اليوم.. وغداً لا تجد من يشتريها.
الموضة الفستان الجرار المتهدل على الساقين.. الموضة فوق الركبة.. الموضة المفتوح.. الموضة المقفول.. الموضة الشوال.. الموضة الممزق.
التغيير.. التغيير.. حتى في الفن والفكر.. “سارتر” ينادي بالوجودية.. “سارتر” يهجر الوجودية.. “سارتر” يقول أنا ماركسي.. “راسل” شيوعي.. “راسل” يهاجم الشيوعية.. الواقعية في الفن.. السريالية.. التأثيرية.. كل مذهب ينتشر يفقد قيمته.
وكل فلسفة يظهر لها متحمسون فدائيون ثم ينفض من حولها السامر تماماً كماركات العربات والتسريحات.. الملل.. الملل.. كل جديد يصبح قديماً بمجرد تداوله.. وكل لهفة تتحول إلى فتور ثم ضجر قاتل وطريق الخلاص سيجارة وكأس ولفافة مخدر وقرص منوم وألف مسكن ومسكن للأعصاب وأبونيه عند أطباء الأمراض النفسية.
لم يعد زبون الكباريه تثيره مفاتن الراقصة العارية التي كشفت له عن مفاتنها ثم دعته إلى شقتها.. ولكن اللذة الطبيعية أصبحت عادية.. والحواس تبلدت.. والملل يلتمس مهرباً أخيراً في الشذوذ.
ثم الإفراط إلى حد الإعياء.. ولا حل.. وفي محاولة أخيرة يلجأ الزبون إلى مائدة القمار.. ثم ينحدر برجليه خطوة خطوة في طريق الانتحار.
أفيشات السينمات.. إعلانات الصيدليات.. عناوين الكتب .. (مانشيتات) الجرائد.. صور الكاباريهات.. تصرخ نحن في عصر الملل.
الوجوه الشاحبة والأذرع المدلاة والعيون المحمرة والأنامل المرتجفة في عصبية.. تصرخ .. نحن في عصر الملل .. الحب كذبة عمرها عمر المناوشات والمناورات.. تذكيها الإثارة.. وحمى يؤججها التمنُّع والتدلُّل حتى يصل إلى الفراش فتهبط الحرارة ويشفى الحبيبـان ويستحمان في عرق العافية ويتحول الحب إلى عادة حميدة يعقبها دش مرطب وأكلة طيبة وأمل خبيث في مغامرة جديدة تنعش الذي مات من العواطف.
النقود تثيرك طالما هي في جيب غيرك فإذا دخلت جيبك فقدت جاذبيته.. الشهادة حلمك وغايتك وأملك حتى تحصل عليها فتنسى أمرها تماماً.. الوظيفة هدف براق حتى تنالها فتتحول إلى عبء ثقيل.
لماذا كل هذا الملل.. لأننا في عصر إفلاس القيم.
قيمة الحب التي تُروّجها الأغاني والروايات سقطت وأفلست.. لأن المرأة لا تصلح لأن تكون هدفاً يُطلب لذاته.. المرأة طريق.. نحن نحب المرأة الجميلة كطريق يوصلنا فيما بعد إلى محبة الجمال .. المرأة نافذة إلى شيء وليست هدفاً نهائياً.. وإذا اتخذناها هدفاً نهائياً كما تقول لنا الأغاني والروايات فإننا سوف نقتل هذا الهدف بحثاً في الفراش ولن يتبقى لنا شيء نجري وراءه.
المرأة زيت يوقد المصباح لنرى على ضوئه أشياء أخرى غير المرأة .. معانٍ وقيماً ومثاليات نعشقها بلا ملل.. وبدون مثاليات وبدون إيمان لا يمكن لحياة أن تعاش وحضارة هذا العصر سقطت لأن ما فيها من فكر مادي أسقط الأديان ولم يستطع أن يُقيم لها بديلاً روحياً، إنه يقول لك إنك تستطيع أن تدخل الجنة بخمسين ليرة في الكازينو فترى حور العين من اللؤلؤ المكنون لابسات الحرير وترى أنهاراً من الخمر وأنهاراً من العسل وزيادة ذلك تستمتع بفرق أكروبات وتجرب حظك على مائدة الروليت.
وفى المدرسة يعلمونك أن “آدم” ليس من تراب ولكن من أسلاف من جنس القرود وأنه سليل تطور انحدر من الحشرات وميكروبات المستنقعات.. وبسقوط هيبة الأديان يقف الإنسان وحيداً بلا سند ولا أيمان في انتظار “جودو” الذي لا يأتي.
كل ما يملكه حياة فانية بعدها التراب ولا شيء وهو يتحوّل بهذا دون أن يدري إلى يأس قاتم لا مخرج منه.. وعطش لا ارتواء له.. فهو ينتقل من لذة لا تروى.. إلى لذة لا تروى.. ولا شبع ولا نهاية.. فهو قد اكتشف أن لا شيء حقيقي.. لا قيمة باقية ولا معنى لشيء..
الملل هو كل ما يتبقى له.. وهو ملل لا علاج له إلا بالعودة إلى فكرة الروح.. إلى الإيمان بأن الإنسان لا يموت وأن في الدنيا قيماً خالدة .. وأن هناك حقيقة خلف عالم الظواهر والأوهام.
حقيقة تبث في من يبحث عنها الحماس الذي لا حدود له.
المبكي المضحك بالموضوع أن هذا الكتاب تم تأليفه في 1986م .. أي قبل (30) سنة من الجحيم الذي نعيشه الآن
  منقول من أحد المواقع

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية