رأي

عابر سبيل

  (النجركوك)!
ابراهيم دقش
•    تلك المرأة الجنوبية التي فقدت زوجها في الحرب التعيسة ببلادها، فاتجهت شمالاً وفي معيتها خمسة أطفال، وانتهى بها المطاف في أحد معسكرات اللّجوء بولاية النيل الأبيض، وارتسمت صورتها في مخيلتي، ولم تشأ أن تبرحها… فما لفت نظري اللغة العربية “المكسَّرة” التي تتحدثها وهي تبتسم.. فالمسكينة استسلمت لواقعها المرير رغم أنها لا تعرف مصيرها أو ما يخبئه لها القدر، ولا تدري من أين تطعم تلك الأفواه الصغيرة، خاصة وأن إمكانات الولاية متواضعة للغاية، والمجتمع الدولي لا يستجيب بالقدر الكافي ليتحرك “إنسانياً” وبالتالي فإن مصير تلك المرأة وأطفالها مثل كثيرين من لاجئي دولة جنوب السودان، يظل مهزوزاً.
     ترى هل فكَّرت تلك المرأة في من تسبب لها في الوضع التي تواجهه رغماً عنها؟ هل لامت ساسة بلادها على قيام حرب لئيمة تحركها دوافع القبلية والأحقاد وشهوة السلطة والحكم؟ أم هل جال بخاطرها أن تجمع زميلاتها في المعسكر لتشكيل تجمع ضد الحرب وضد اللجوء وضد التشرد؟ ويبدو البند الأخير مستحيلاً، لأن الأسبقية عندها هم أطفالها ليبقوا على قيد الحياة.
     تصوَّر أن تضطرك حرب “مصنوعة” إلى أن يكون كل طموح البني آدم الجنوبي معلقاً بجرعة ماء و “لقمة” طعام.
    ملعون أبو الانفصال!!
•    تذكَّرت أول ما تخرَّجت وكانت أول محطة هي (أويل) في أعالي النيل بجنوب السودان وقتها، فلجأت إلى أحد أقربائي من “كبارات” وزارة التربية والتعليم، فنصحني بأن العمل في الجنوب ضريبة يستحسن أن تؤديها وأنت في بداية حياتك العملية.. ودخلت الفصل مزهواً لأجد أمامي طلاباً أكبر مني حجماً وربما سناً، فرفضوا القيام لي لأني في نظرهم مجرد ولد (نجركوك) فأخطرت ناظر المدرسة الذي أجبرهم على القيام لي.. فكتبوا لي على السبورة في اليوم التالي بخط واضح: (نريد أن نرى شهاداتك!) فزجرتهم بأني “مؤهل” لتدريسهم، وهذا شأن لا يخصهم.. فعادوا وكتبوا لي: (عد إلى صحرائك) فاضطررت أن أرسم وأشرح لهم أن شمال السودان ليس صحراء، كما يتوَّهمون، بل فيه أطول أنهار العالم مع وجود روافد نهرية أخرى.
     وينتهي المطاف بجنوب السودان بالانفصال عن الشمال في 2011، ويخرج “باقان أموم” وهو يحمد الله على أنه خلَّصهم من الوسخ والقرف.. والآن وبفضل “باقان” وأمثاله يغرق الجنوب كله في أقذر وأحقر حرب.. ومع ذلك يختار الهاربون من أتونها اللجوء شمالاً إلى (محل الوسخ والقرف) الذي قال به ذلك الجاحد.
     ولأن السودانيين شعب طيب، فقد سيَّروا النفرات لمساعدة ضحايا حرب الجنوب.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية