تقارير

لقاء نيروبي.. هل يردم الهوة في المواقف من (علاقة الدين بالدولة)؟

أم أن الطريق لازال طويلاً؟
الخرطوم – عقيل أحمد ناعم
شهدت العاصمة الكينية نيروبي في الفترة من  ( 23 إلى 25) فبراير الماضي،  وبدعوة وتنظيم من (مشروع الفكر الديمقراطي) و(منتدى إيلاف للحوار والتنمية)، لقاءً بين مجموعة من السودانيين بمدارس فكرية مختلفة ضمت  (إسلاميين وعلمانيين وغير مصنفين) ومن تمت تسميتهم بـ(المفكرين المدنيين)، في منتدى تحت مسمى (الملتقى السوداني للعلاقة بين الدين والدولة)، وهو ليس اللقاء الأول من نوعه، فقد سبقه لقاء في 2013، ولكن المختلف هذه المرة أن اللقاء كان أوسع، حيث شاركت فيه شخصيات إسلامية تنتمي للمؤتمر الشعبي والمؤتمر الوطني وللإصلاح الآن (واللافت مشاركة مسؤولة قطاع الفكر والثقافة بالحزب الحاكم د. “انتصار أبو ناجمة”)، وأخرى يسارية وعلمانية منتمية للحزب الشيوعي وغيره من القوى.       وخروجه ببيان مشترك حول ما تم الاتفاق عليه بين المشاركين، ما يعني أن تقارباً في الرؤى حول هذا الموضوع الشائك الذي ظل محل خلاف بين القوى السودانية منذ نشوء الدولة السودانية الحديثة، قد أحدثته اللقاءات والنقاشات المتكررة. فهل من المؤمل أن يتجاوز السودانيون قريباً الاحتقان والخلاف التاريخي بين قواهم السياسية والفكرية المتعددة، منها  الداعية لجعل الدين هو المحرك الأساسي لكل شعاب الحياة، وفي مقدمتها السياسة وقضايا الحكم، وتلك المطالبة بتقليل تأثير الدين على الحكم والسياسة منعاً لاستقلاله وتجييره لصالح القوى المتحكمة في السلطة، أو تلك الداعية لحصر الدين في السلوك الشخصي للناس بعيداً عن أي دور له في الحياة العامة وقضايا المجتمع؟ أم أن الطريق لازال طويلاً والشقة لم تزل بعيدة؟.
توافقات جوهرية
على خلاف الملتقى الأول خرج الملتقى الأخير الذي شارك فيه (42) مثقفاً، إسلامياً، وعلمانياً، وآخرين خارج هذين التصنيفين، ببيان مشترك حوى كافة التفاهمات ونقاط الاتفاق بين المشاركين، وهو ما اعتبره بعض المشاركين تطوراً وتقدماً في مستوى التقارب بين الأطراف المتحاورة. ولعل واحدة من النقاط المهمة والجوهرية هي الجدل حول علاقة الدين بالحياة العامة وموقعه منها، وهنا قد أكد البيان الختامي بوضوح على مكانة الدين في المجتمع وعدم إمكانية تجاوزه أو إقصائه، وقال نصاً ” اتفق المجتمعون على أن للدين دوره في المجال العام، بوصفه عنصراً أساسياً في جذر مجتمعنا، ومكوناً أصيلاً في سائر المجتمعات الإنسانية، ولا يمكن إبعاده أو استئصاله “. لكن البيان بالمقابل حاول سد باب التخوفات من إمكانية استخدام رؤية طرف محدد للدين وفرضها على الآخرين باعتبارها هي النسخة الوحيدة، وذلك من خلال التنبيه إلى (أن اعتماد تفسير واحد للدين، وقهر الناس عليه، واستغلاله للكسب السياسي، لا تقره الأديان نفسها، لا سيما الإسلام). بجانب مطالبة الدولة بالوقوف على مسافة واحدة من كل الأديان والمذاهب والمدارس الفكرية، واعتماد مفهوم المواطنة المتساوية أمام القانون هذا بخلاف إعلان الالتزام بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان  والحريات بمختلف أشكالها، باعتبارها كلها أصول ومبادئ محل إجماع تمهد للطريق الصحيح إلى الدولة الوطنية.
وهو ما جعل الدكتور “خالد التيجاني النور” أحد المثقفين الإسلاميين المشاركين في الملتقى يصفه بأنه خطوة متقدمة في طريق التوافق على أرضية مشتركة، وحد أدنى في قضية الدين والدولة، باعتبارها واحدة من القضايا الأساسية التي تمثل جزء من الصراع في الساحة السودانية، لافتاً إلى أن اللقاء الأول في 2013 كسر الحواجز بين المشاركين المنتمين لمدارس فكرية مختلفة ومهد للتواصل بينهم. وأوضح في تصريح لـ(المجهر) أن الأوراق التي ناقشها المنتدى والتي قدمها عدد من الأكاديميين وغير الأكاديميين غلب عليها الطابع البحثي. وقال: “اللقاء في مجمله كان طابعه فكرياً وناقش القضايا المطروحة بعمق بإسقاطها على الواقع السوداني “. نفس الاتجاه مضى فيه المسؤول عن (مشروع الفكر الديمقراطي)، المشرف على المنتدى “شمس الدين ضو البيت”، موضحاً نقاط الاتفاق بين المشاركين وحرصهم على الدعوة لوقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان مع التأكيد على مكانة الدين في المجال العام دون فرض طرف لرؤيته وتصوره للدين على الآخرين.
مراجعات أم تنازلات؟
مثل هذه القضايا المرتبطة بالموقف من الدين دائماَ ما تثير الحساسية لدى الأطراف المختلفة، ما يجعل كثيرين يبحثون وسط مخرجات مثل هذه المنتديات عن (من هو الطرف المتنازل، وما هو التنازل الذي أقدم عليه؟). لكن غالب المشاركين في المنتدى يرفضون بشدة عبارة (التنازل) لتوصيف ما نتج عن اللقاء. القيادي بحركة الإصلاح الآن  “مبارك الكودة” الذي درج مؤخراً على تقديم رؤى نقدية للتجربة الإسلامية في الحكم التي كان أحد روادها، والذي شارك في لقاء (نيروبي)، يرى أن كلمة (تنازل) لا مكان لها فيما دار من حوار وما خرج به المنتدى. وقال لـ(المجهر): ” هي رؤى ليس فيها تنازلات ” وأضاف: ” أنا لم أتنازل عن ديني، بل ديني أصلاً هو هكذا”، وأشار إلى أن الطرفين (إسلاميون من جهة وعلمانيون ويساريون من جهة أخرى)، كانا مخطئين ويمتلكان رؤى قاصرة عن أفكار بعضهما. وأوضح أن بعض المواقف مثل (تعطيل سيدنا “عمر” لحد السرقة في عام الرمادة)، لا يمكن توصيفها بأنها تنازل، وعدها تنزيلاً للدين في اللحظة والظرف المعين. وقال: ” نحن مكلفون بما نستطيع ونريد أن ننزل الدين إلى واقعنا “. وحرص “الكودة” على التفريق بين العلمانية بين دولة وأخرى، معتبراً أن العلمانية في السودان تختلف عنها في الغرب. وقال: “العلمانية ليست أبيض أو أسود، فعلمانية فرنسا تختلف عن علمانية كثير من السودانيين” وطالب بالعمل على إعداد ورقة لتحرير مصطلحات (إسلامي وعلماني).
من جهته حرص د.”خالد التيجاني” على تأكيد أن المشاركين لا يمثلون أي جهة أو تيار، وأنهم يمثلون فقط أشخاصهم . وانتقد الحديث عن تقديم أي طرف تنازلات واعتبرها مراجعات نقدية ضرورية من كافة الأطراف الإسلامية والعلمانية، قائلاً: “هذه المراجعات تمت لأن الإسلام فرض على المسلم أن يراجع نفسه ويستغفر عن أخطائه دون مكابرة “، وأضاف: ” من يتحدثون عن تنازلات فهذا منهج لا علاقة له بالإسلام”، مشيراً إلى أن القرءان الكريم يعيب على العقلية المتمسكة بما وجدت عليه الآباء. ولفت إلى أن المشاركين اتفقوا على عدم فرض طرف رؤيته على الآخر. وقال: ” هذه مجموعة من السودانيين حاولت تقديم مبادرة تساعد في خروج البلد من أزماتها ومن يرون فيها أخطاء فليقدموا أفضل منها “، وأشار إلى وجود تحفظ داخل المنتدى حول التصنيفات بين (إسلامي وعلماني)، باعتبار أنها تصنيفات سياسية وتنظيمية، بالنظر إلى أن الحركة الإسلامية لا تحتكر التعبير عن الإسلام، وأن العلمانيين ليس لديهم موقف ضد الدين، مستدلاً بأن اللقاء أجمع على أن الإسلام مكوِّن أساسي لوجدان المجتمع وأن حضوره ليس محل خلاف ولا جدال. وقال: ” لكن التحفظ الأساسي أن لا يتم توظيفه في إطار الصراع السياسي “، وأكد “التيجاني” أن مجمل توصيات المنتدى تعبر عن (روح ومقاصد الإسلام).
خطوة للأمام
” وضع الدين في منزلة لا تجعل طرفاً يفرض رؤيته الخاصة حوله على الآخرين، وبالمقابل لا تسمح لطرف آخر بالدعوة والعمل على إقصائه من الحياة العامة مع التزام الدولة بالوقوف على مسافة واحدة من جميع الأديان والمذاهب”. يبدو أن هذه هي خلاصة وجوهر موقف المنتدى من القضية التي ظلت تؤرق القوى السودانية لسنوات متطاولة، وهي “قضية العلاقة بين الدين والدولة” . ودكتور “خالد التيجاني” يرى أنها خلاصة كانت واضحة بجلاء في البيان الختامي للمنتدى. وقال: ” من يقرأ البيان دون أي ظلال سياسية وتصنيفات مسبقة عن المشاركين في المنتدى سيصل لرؤية واضحة ” وأضاف ” في تقديري أي شخص حريص على الإسلام وعلى البلد ويقرأ البيان بموضوعية ينبغي أن يحتفي به ويضعه كخطوة متقدمة ومهمة توافقت عليها نخبة لها وضعها وإسهاماتها الفكرية في قضايا الوطن”.

لبنة أولى
“هي خطوة في طريق طويل” أو هكذا يجمع كافة المشاركين في منتدى نيروبي على توصيف ما خرج به المنتدى من اتفاقات، في حين أن “مبارك الكودة” وصفه بأنه “حجر في بِركة”، مؤكداً أن الوصول لتوافق كامل حول رؤى التيارات المختلفة من قضايا الدين والدولة لن يصبح واقعاً بين يوم وليلة ولا بعد ثلاث سنوات، هي عمر الحكومة الحالية. وقال: ” هذا مشروع كبير لبناء دولة وطنية” . من جانبه دعا “خالد التيجاني” من يتبنون رأياً مختلفاً عما خرج به المنتدى إلى البحث عن حلول لمشاكل البلد بدلاً عن “وضع العصي في الدواليب” وإنكار المأزق الذي يعيشه السودان.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية