الجزيرة بين واقعين
التحقيق الذي نشرته (المجهر)، يوم أمس، من قلب ولاية الجزيرة بالصورة وقلم الصحافية الأستاذة “زهر حسين” مراسل الصحيفة بولاية الجزيرة قد كشف واقع حال الريف بلا زيف ولا مساحيق تجميلية.. وفي قلب الجزيرة التي تعدّ مهد التعليم وخزانة السودان ومصدر ثروته من القطن والذرة منذ الاستقلال وحتى عهد قريب.. بل الجزيرة إنسانها وسطي لا يعرف العنصرية والتمييز بين أبناء السودان الذين هرعوا إلى الجزيرة من دار مساليت في أقاصي غرب السودان إلى ديار المحس في الشمال، ومن جبال النوبة إلى جبال البحر الأحمر.. فتحت الجزيرة قلبها قبل أرضها لتشكيل تمازج المجتمع الحالي.. لكن بعد أكثر من ستين عاماً على استقلال السودان، في الجزيرة طلاب مدرسة “طيبة البطاحين” يجلسون في العراء لتلقي التعليم.. وتلفح وجوههم الناعمة النضرة حرارة الشمس وبرودة فصل الشتاء.. وفصول مدرسة “طيبة البطاحين” رواكيب من القش.. وحتى الرواكيب قديمة ومهترئة.. والصورة التي نشرتها الصحفية في عدد أمس (الثلاثاء) أبلغ من كل وصف وتعبير.. وفي الجزيرة لا يصدق المرء أن هناك مدرسة مختلقة، وفصول عبارة عن حوش وسبورة من الخشب.. ومعلم صابر ومؤمن بقضيته ويرفض تبديل مهنته بأخرى أكثر جذباً اجتماعياً.. وعائداً مادياً.. ومعلمات صابرات يحدقن في الفضاء ينتظرن أن تجود عليهن وزارة التربية بمبنى من الطوب يستر عورات الحكومة أولاً قبل أن يغطي الطلاب من وهج حرارة الشمس ولسعات برد الشتاء.
إذا كانت “طيبة البطاحين” تعيش هذا الواقع البائس، فإن أبواق الإعلام تتحدث عن معجزة الوالي “أيلا” الذي بدل وجه الجزيرة.. ووضعها في مصاف الولايات الأكثر تقدماً في السودان.. والوالي “أيلا” في ود مدني العاصمة يبني ويعمر، وينفق المال على الطرق والشوارع، يهتم بالعمران و(ينسى) الإنسان الريفي الذي يتجرع كل يوم مرارة الحرمان من الحقوق الأساسية.. وحينما يقرأ سكان قرية “طيبة البطاحين” عن معجزات الوالي في البناء والتعمير، فإن حالهم يغنيهم عن إصدار شهادات مجانية لسلطة ولاية لم تمر بـ”طيبة البطاحين” وربما لم تسمع بها.. وللإنصاف المسؤولية لا يتحملها الوالي “أيلا” وحده، بل الولاة الذين تعاقبوا على الجزيرة كانوا حكاماً على ود مدني والمناقل حيث مراكز ثقل السلطة ومساقط ضوء الإعلام، أما الريف الذي تعدّ “طيبة البطاحين” مثالاً له فإن حظه من التنمية جد قليل.. وفي الوقت الذي يشتجر فيه المترفون بعاصمة الولاية من أهل السلطة والحكم، هل يتم فصل الوالي “أيلا” من عضوية شورى الحركة الإسلامية؟ أم يصغي الأعضاء لتوسلات مبعوث الحركة (الخرطومي) “مهدي إبراهيم” وهو يطلب من الأعضاء الرأفة بكبير الحركة الإسلامية ورئيس الحزب الحاكم في الجزيرة؟!
وتثير قضية الخلافات بين “أيلا” والنخبة الحاكمة في الجزيرة غباراً كثيفاً منذ مدة ليست بالقصيرة.. وهناك في الريف طلاب يجلسون على الأرض، ومدارس أكثر بؤساً من مدارس إقليم دارفور الذي يدعي أنه مهمش.. والجزيرة التي تمثل قلب الوطن ووسطه تشكو لطوب الأرض.. ويجلس الطلاب على الأرض وتظللهم رواكيب من القصب الجاف مواردها تذهب للمترفين في المدن.. فما لكم كيف تحكمون!!