تحقيقات

مدرسة "طيبة البطاحين" بالجزيرة.. مأساة ناطقة ولا حياة لمن تنادي!!

فصولها من قش وصقيع البرد ينهش أجساد تلاميذها الهزيلة
مكتب التعليم يختار أقصر الطرق للمعالجة ويوقف التسجيل للمدرسة!!
الحطب ينهار على رؤوس التلاميذ والأهالي يصرخون في كل الاتجاهات!!

جولة – زهر حسين
أهالي قرية “طيبة البطاحين” بولاية الجزيرة حالهم يغني عن السؤال، ينظرون لأطفالهم التلاميذ وهم يجلسون في العراء في صقيع البرد وهجير الصيف وهطول الأمطار وهبوب الرياح، لكن الأطفال صمدوا لأن تمسكهم بالعلم والرسالة كان أكبر.. ثمانية أعوام منذ أن أسست مدرسة الإنقاذ بقرية “طيبة البطاحين” المختلطة وهي تبحث عن من ينقذها من الوضع المأساوي الذي شاهدته.. وسأنقل لكم جزءاً من معاناتهم عبر تسلسل هذا التحقيق الذي تنطق فيه الصور. 
{ مشهد أول
بدأت رحلتي في الساعات الأولى من الصباح، من السوق الشعبي بود مدني متجهة صوب سنار لكي أصل آخر قرية في ولاية الجزيرة من الجهة الجنوبية بمحلية جنوب الجزيرة وحدة “الحاج عبد الله” المنطقة التعليمية “ود الحداد”.. وبالفعل وصلت قرية “طيبة البطاحين” آخر قرية وأنا أنظر إلى عبور ولاية سنار، وقد وصلت في وقت مناسب قبل خروج التلاميذ من المدرسة أو فلنقل “الكرانك” التي يدرس بها التلاميذ لأني وجدت تلاميذ ولم أجد مدرسة. كان في استقبالي العم “محمد زين” وأخوته، ورئيس اللجنة الشعبية وغيرهم من أهالي القرية وأساتذة المدرسة لكي أقف على حال المدرسة الذي أصبح يغني عن السؤال.

{ الفصول (كرانك)!!
الأستاذة “رشيدة عبد الله دفع الله” أول من أسس المدرسة تحكي قصتها وتقول: (بعد أن تسلمت الخطاب بتأسيس المدرسة من مكتب التعليم ود الحداد لم أجد شيئاً أؤسس عليه المدرسة، فالمكتب لم يمنحني سوى خطاب التأسيس بتاريخ 12/8/2009، فوجدت العم صديق أحد مواطني القرية، وكان هنالك جامع قديم منهار عبارة عن طوب مرصوص فقط وقال لي: (خلاص درسي الطلبة فيه هنا) ولكن عندما نظرت وجدت أن فيه خطورة على التلاميذ الذين وصل عددهم إلى (96) طالباً فطالبت أهالي القرية بعمل (كرنك) من قش، وبالفعل قام عم صديق وإخوانه ببناء (كرنكين) من الحطب والخيش أحدهما فصل والآخر مكتب.. بدأ التلاميذ بالتبرع، واشتريت من هذه التبرعات أدوات كمعينات للعمل من طباشير وسبورة ومؤشر وغيرها، أما الكتب فقد منحني إياها مكتب التعليم بود الحداد بجنوب الجزيرة، وفي إحدى المرات تبرع لنا مدير مكتب تعليم البنات بملابس عبارة عن زي للتلاميذ ودولاب وكراسات.. وفي العام 2010 انضمت لي الأستاذة زينب أحمد النور من ديم المشايخة، وأقمنا الفصل الثاني بـ(42) طالباً).
{ مكتب التعليم يوقف التسجيل للمدرسة!!
تواصل الأستاذة “رشيدة” بقولها: (مكتب التعليم طلب عدم تسجيل أو قبول أي تلميذ بالصف الأول إلى حين بناء المدرسة، وإلى الآن لم تُبنَ المدرسة والقرية في حاجة لتسجيل أبنائها وإذا أوقفنا التسجيل سيكون هناك فاقد تربوي، خاصة أن أقرب مدرسة للقرية على بعد خمسة كيلومترات، وقد تم التصديق بفصل من الأستاذ “ميسرة فضل السيد” مدير مرحلة الأساس بجنوب الجزيرة، وعملنا (كرنك) ثالثاً ليصبح عدد الفصول أربعة مقابل أربعة معلمين، لكن نحن في حاجة لمعلمين بتخصصات مختلفة لحاجتنا لأساتذة مواد متفرقة، فلا يعقل أن يدرس أستاذ واحد كل المواد للفصل الدراسي في سنة كاملة).

{ طرق أبواب المسؤولين ولا مجيب!!
التقينا بمدير المدرسة الأستاذ “علي تاج الدين عبد الله” وقال لنا إن عدد الطلبة الآن بالمدرسة (228) طالباً ونحن نحتاج لأساتذة للمواد المتفرقة.. في بداية الدراسة واجهتنا صعوبات عديدة منها عدم التأهيل الكامل للمدرسة من المكاتب والفصول والإجلاس حتى سور المدرسة التي تقع في بداية القرية وعلى شارع زلط سنار مما تسبب في الضوضاء التي أثرت على الاستيعاب والفهم وأثر بدوره على المستوى لولا تشبث التلاميذ وإصرارهم على الدراسة رغم الظروف.. حتى (الكرانك) التي هي عبارة عن بناء من قش انهارت بعامل الأمطار والهواء وازدادت المعاناة في فصل الشتاء واشتداد البرد، وازدادت مطالبات المجلس التربوي، فقد طرقوا جميع أبواب المسؤولين من المعتمد والوالي حتى الخيرين.. وبالرغم من هذه المعاناة فإن المعلمات الموجودات بهذه المدرسة يعملن في تعاون تام متغلبات على هذه الظروف الصعبة.. كذلك نجد الدعم من أهالي القرية.. الآن نحن في فترة امتحانات نهاية العام على أمل أن تأتي بداية العام القادم وأوضاع المدرسة قد تحسنت، مع ملاحظة استعدادهم لجلوس امتحان شهادة الأساس للصف الثامن.
{ الحطب ينهار على رؤوس التلاميذ!!
الأستاذة “منى فضل الله أحمد” إحدى المعلمات اللائي يعملن في المدرسة أضافت إن بيئة المدرسة بصورة عامة غير صحية وغير مناسبة للدراسة، والتلاميذ يعانون بسبب التشويش وتشتيت الأفكار، وقد حدث أن وقع أحد أعواد الحطب على رأس تلميذ، كذلك موقع المدرسة على شارع الزلط، وهي تفتقد حتى للسور الخارجي والحمامات.. المدرسة من ناحية موقع مناسب، لكن لا يعقل أن تكون واجهة ولاية الجزيرة بهذا المنظر خاصة أن قرية “طيبة البطاحين” تمثل أول قرية بعد ولاية سنار وآخر قرية لولاية الجزيرة، مما يؤهلها لأن تكون واجهة الولاية من جهة سنار.

{ صوت القرية
رفعت القرية صوتها بالمطالبة من أجل تحسين بيئة المدرسة منذ استخراج شهادة التأسيس، فقد قال العم “محمد زين” إن المال الذي صرفته القرية على زيارات المسؤولين كان كافياً وحده أن يبني مدرسة جديدة، ولم نجن سوى الوعود من كل من تعاقبوا على إدارة المحلية والولاة منذ العام 2009 وإلى الآن تستمر المطالبة، وأضاف المواطن “قسم السيد البشير العبيد”: (بعد زيارة معتمد المحلية ووزير التربية والتعليم بالولاية وتم التصديق للمدرسة ولم يتم أي عمل فيها، قمنا بإنشاء “كرنكين” كفصول لتبدأ بها المدرسة، وبالفعل بدأت بـ(96) تلميذاً، وسعينا بجهود أبناء القرية وبنينا فصلين من الطوب، لكن توقفنا لعدم كفاية المال للعمل.. والمعلوم أن القرية إمكاناتها محدودة بسبب اعتمادها على الزراعة الموسمية في فترة الخريف، ولا توجد بها مهن مساعدة ولا ترتبط بأي نشاط اقتصادي، وهي تعاني من عدم وجود السوق.. حتى الكهرباء غير متوفرة، والمسؤولون نراهم من انتخابات إلى أخرى، فقد وعدونا بتوصيل الكهرباء بعد أن قام أبناء القرية بالجهد الشعبي بتركيب الأعمدة التي ينقصها شد الأسلاك فقط).
{ الحلقة المفقودة
تحصلت القرية على التصديق الذي بموجبه تم إنشاء المدرسة بتاريخ 7/11/2009 معنون من مدير عام وزارة التربية والتعليم والآخر من مدير عام وزارة التربية والتعليم وذلك للتصديق بفتح مدرسة في قرية “طيبة البطاحين” بعد موافقة إدارة التعليم بالمحلية اعتباراً من العام 2009-2010 من السر محمد يس مدير الإدارة الفنية للتعليم الأساس ولاية الجزيرة، وقد تمت الموافقة من إدارة التعليم ويفهم من ذلك أن المدرسة تم وضع ميزانية لها حتى لو كانت ميزانية الإنشاء فقط.. ولكي نفهم أصل هذا التصديق، سألت المواطن الذي وجدت بحوزته هذه التصديقات العم “قسم السيد البشير العبيد” فقال: (عندما تسلمنا التصديق بالمدرسة ولم نر أي نوع من العمل، لذلك بدأنا ببناء “الكرانك” التي رأيتها والمدرسة الآن عبارة عن “كرانك” من الصف الأول إلى السادس.. والفصلان السابع والثامن هما اللذان منحتنا لهما الحكومة الاتحادية، ولم يكتمل بناءهما، ونضطر مع إدارة المدرسة لإخراج التلاميذ منهما خوفاً من وقوع السقف عليهم).
{ مجلة تعليم البنات
نشرت (مجلة تعليم البنات) وهي صحيفة شهرية تصدر عن إدارة تعليم البنات في عددها الخامس عشر أغسطس 2009 بأن وفداً من الحكومة الاتحادية في يوم 12/7/2009 قام بزيارة لولاية الجزيرة، وعقد لقاءات مع وزير ومدير وقيادات التعليم بالولاية ومدير تعليم البنات، وحضر الوفد لقاء اليوم الوطني بمحلية جنوب الجزيرة بحضور المعتمد بقرية “طيبة البطاحين” وتم التصديق بمدرستين أساس بنين وبنات، بالإضافة لفصل يافعين وتم توزيع ملابس ومعينات، وتبرع الوزير والمعتمد لجنوب الجزيرة ببناء مدرستين في القرية.. هذا ما ورد في صفحات الصحيفة مما يؤكد أن هناك قولاً وليس فعلاً.
تحدثت لرئيس اللجنة الشعبية لقرية “طيبة البطاحين” “إبراهيم بشير العبيد” الذي قال: (من بداية العمل لتأسيس المدرسة جاءتنا الحكومة الاتحادية ممثلة في النور أبو الحسن ومدير التعليم بالولاية ووزير التربية والتعليم والتزموا ببناء فصلين ومكتباً وتأهيلها تأهيلاً كاملاً، وبالفعل بدأ المقاول في بناء الفصلين، لكنه توقف، وعندما سألنا مدير مكتب التعليم بالمحلية: لماذا توقف العمل؟ قال إن المقاول الذي كان يعمل ببناء الفصلين أخذ حقه كاملا لكنه سافر إلى السعودية، وبعد فترة بحثت وقابلت المقاول الذي قال إنه لم يتسلم أي مال لبناء الفصلين، لذلك طالبنا محلية جنوب الجزيرة بخيام لاستمرار الدراسة، لكنها انهارت بفعل المطر وطالبنا كل الولاة والمعتمدين من العام 2009 إلى عهد “الزبير بشير طه” الذي جلس على هذه “الكرانك” ووعد بحل مشكلة المدرسة، ولكن لا حياة لمن تنادي.
{ شيء أخير
حسب المعطيات، فإن هناك تصديقاً ببناء المدرسة أو المدرستين أو الفصلين، وهناك مبالغ يفترض أن تكون خصصت للإنشاء، ولكن هناك حلقة مفقودة نرجو من كل من يهمه الأمر إكمالها كذلك.
من الملاحظ وجود أطفال يافعين في سن رياض الأطفال يدرسون في العراء، وعندما سألت قالوا هذا الجزء من “الكرنك” مخصص لدراسة أطفال الروضة والتمهيدي، وعرفت أنه فصل اليافعين الذي تم تصديقه.. كذلك لاحظت الفاصل بين الفصل والآخر أي بين “الكرنك” والآخر عبارة عن شوال من الخيش.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية