شاي بالملح وأبغازي والكدمول
كنت وقتها طالباً بالسنة الثالثة بكلية الطب جامعة الخرطوم في عنفوان الشباب والعطاء مولعاً بالعمل العام وجامعة الخرطوم، وقتها مصنع الرجال، تعطيك العلم في قاعات الدرس والقيادة والريادة في اتحادها وروابط كلياتها وجمعياتها العلمية والأدبية، كنت في سكرتارية رابطة كلية الطب وتم اختياري مع قريبي وصديقي الأخ الدكتور “أحمد فرح شادول” الشاعر الغنائي المرهف، وكان وقتها رئيساً للرابطة لنمثل الكلية في مؤتمر رابطة طلاب الطب الأفارقة بنيروبي، حاضرة كينيا، أصبت بصدمة ثقافية عندما وجدت أن السكن مختلط بالنسبة لطلاب الجامعة، كانت بجواري إحدى الطالبات المسؤولة عن ضيافة وفد السودان، وأنا جلوس في قاعة الطعام، وتناولت كوباً من الشاي، فسألتني في دهشة وتعجب: هل تشربون الشاي بالملح في السودان، علمت وقتها أن البقر قد تشابه عليّ وأنني وضعت ملحهم الناصع البياض في كوب الشاي، وبعنجهية أقرب إلى الجعلية، عزّ على أن أعترف بخطأي، فأجبتها: نعم، نحن في السودان نشرب الشاي بالملح، وجاهدت نفسي في شرب كوب الشاي المالح حتى النهاية، ذكرتني هذه الواقعة اللوبي عمدة دار جعل، وهو طريح الفراش في آخر أيام عمره، أشعل سيجارة، فوقعت فوق ملابسه، بدأت الملابس والفراش في الاحتراق، فقام بمنع ابنته من طلب النجدة من الجيران حتى لا يقال إن العمدة تم إنقاذه بواسطة الجيران، واحترق حتى الموت، وفي واقعة أخرى زاد محدثي الصديق “عصام مضوي” أن العمدة تعرض لحادث سرقة جزلانه في القطار، ونكر أن الجزلان يخصه حتى لا يقال إن العمدة انسرق، وتحضرني رواية الجعلي الذي أُصيب أخوه بغيبوبة، وقام بتكفينه ظناً منه انه توفي، فقال له ابنه يا أبوي عمي بفرفر في الكفن فكه، فأجاب الجعلي: والله كان لعب صقرية ما أفكه كمان يقولوا علينا ما بنعرف الموت .
آثرتني نيروبي بطقسها ونظافتها وخضرتها وعمرانها فعدت إليها عريساً في شهر العسل، لتكون أولى محطاتي قبل ممبسا وأديس أبابا، سعدت أيما سعادة عندما أخطرتني الدكتورة “سلمى إبراهيم الصول” أنني سأكون في ضيافتها بنيروبي في طريقي إلى أنجمينا عاصمة تشاد، تعرفت على الدكتورة “سلمى” في مبادرة كريمة وهي تكرمني في إطار دعم مادي وعيني سخي قدمته لدار المسنين بالسجانة .
الدكتورة “سلمى” لمن لا يعرفها من سيدات الأعمال السودانيات، أعطاها الخالق علماً وسعة أفق وموهبة في إدارة الأعمال، تنقلت بين ليبيا حيث درست الطب، ثم هولندا وسويسرا وماليزيا ودبي والخرطوم ونيروبي، وزوجها الدكتور “محمد الحسين” مسؤول عن علاج القوات الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط وأفغانستان، أدارت الدكتورة “سلمى” أعمالها بمهارة في شتى ضروب التجارة ولأنها مسكونة بكرم فياض، ونبل أخاذ، أرادت أن يكون خيرها لأهلها وللإنسانية جمعاء في شكل دعم أعمال خيرة عدة ودعم مادي وعينيي للشرائح الضعيفة والمهمشة في المجتمع، وأرادت أن يمتد خيرها هذا إلى الجارة تشاد لما لها من أواصر قربى وجذور تمتد إلى هنالك، حدثتني عن ضعف الخدمات الصحية بالعاصمة أنجمينا، وطلبت مني التعاون في مد يد العون لأهلنا في تشاد، وبخاصة في خدمات علاج الكلى أسوة بما قمت به تجاه الأخوة في نيجيريا من قبل استضافتني سلمى بفلتها الأنيقة جداً بالحي الدبلوماسي بنيروبي، وأكرمت وفادتي، لفت نظري أرتال الكينيين بجانب الطرقات يمشون على الأرض، وعلمت من “سلمى” أن الكينيين يمشون متوسط أربع ساعات في اليوم ذهاباً وإياباً للعمل، وقد ساعدهم طقسهم المعتدل على ذلك؛ لهذا لا تجد أن أحدهم له (كرش) عدا السياسيين الذين رأيناهم على صفحات الجرائد .
حطت بنا الطائرة الكينية العاصمة التشادية أنجمينا، وهي تستحم بأمطار غزيرة، لفت نظري التشابه الشديد في العادات والطباع للسودانيين لخدماتهم الصحية المتواضعة، فهنالك ثلاث ماكينات فقط لغسيل الكلى في الدولة كلها، رحّبت بنا الجالية السودانية بالعاصمة التشادية، وعلى رأسهم سفيرنا السيد “عباس عربي”، فقد جمع السودانيين في مائدة إفطار عامرة توسطها صحن (أبغازي)، وهو عبارة عن معالجات لـ(كبير إخوانه) ليصير فاتحاً للشهية .
حضرت عرساً تشادياً في الفندق الذي اسكن فيه تراقص فيه التشاديون على انغام الموسيقى السودانية تسيطر المرأة على مراسيم الزواج بالحضور والجلوس في قاعة الفرح وباحة الرقص يحضر الرجال وعلى رأسهم (الكدمول) وهي عمامة تلف في الرأس والعنق ويقومون بالتجكيت (النقطة) على الفنان .
لفت نظري شخص على جانب طريق الأسفلت كان يحمل كرسياً وحقيبة أوقفه شخص آخر قام بإجلاسه على الكرسي، وحلق له (كاري)، وبعد إكمال الحلاقة اتجه الحلاق في اتجاه والمحلوق له في اتجاه آخر، واتجهت أنا صوب المطار .