الفراغ العريض
بالطبع الفراغ المقصود هنا ليس رواية الأستاذة “ملكة الدار” التي نشرت في زمان مضى وأثارت جدلاً في الساحة حينذاك بقدر ما الفراغ هو واقع الدولة والحكومة اليوم.. من الناحية النظرية والشكلية والمظهرية هناك حكومة تصرف شؤون الحكم أو هكذا ينبغي أن تكون.. ولكن عملياً تعيش الدولة حالة فراغ عريض.. لا يتخذ أغلب الوزراء ولا الولاة ولا بقية المسؤولين في الحكومة قرارات في الوقت الراهن، وحتى الموظفين قل احترامهم للمسؤولين الأعلى منهم، وأي مسؤول لا يعرف موطئ قدميه في المرحلة القادمة.
الوزراء في حالة ترقب وانتظار لما تسفر عنه المفاوضات أو المشاورات الجارية لتشكيل حكومة لا يعرف أحد متى يتم تشكيلها ومَن هم أعضاؤها الجدد والقدامى.. حتى وزراء المؤتمر الوطني أيديهم على قلوبهم، بعضهم أصابته (فوبيا التغيير)، يتوارى عن أجهزة الإعلام خوفاً من القيل والقال، يؤثر السلامة بتأجيل أي قرار قد يثير ردود فعل تطيح بالوزير من مقعده.. إذا كنت تطلب معاملة يتخذ بشأنها الوزير قراراً عليك توطين نفسك على الانتظار طويلاً.
الذين يصنعون الأخبار والأحداث يسألونك الأخبار شنو؟؟ والذين بيدهم القرار، وهم قلة قليلة جداً في الوقت الراهن، يتوارون عن الأنظار.. والمؤتمر الوطني الذي كان يباهي بعدد مكونات الحوار الوطني من الأحزاب والشخصيات الحزبية والحركات المسلحة أصبح اليوم يندب حظه، وقد تعدد الطامعون وضعف المعروض من الوظائف، وكثرت الأيدي التي تمتد للطعام القليل.. وإذا كان من آيات ضعف النظام الديمقراطي وسوءاته التي دعت القوات المسلحة إلى الاستيلاء على السلطة في أكثر من مرة، تطاول لقاءات السيدين وتعثر تشكيل الحكومات، فما أشبه الليلة بالبارحة.. منذ انتهاء الحوار الوطني ورفع توصياته، وتعديل الدستور لمقابلة استحقاقات المرحلة القادمة، ظل المؤتمر الوطني يفاوض، وتنعقد لجانه غير المعلنة ليل نهار.. والأحزاب قادتها ورموزها قد أحسنوا هندامهم، ووطنوا أنفسهم على مرحلة جديدة، ينتقلون فيها من حال إلى حال.. بعضهم عين حراساً لنفسه وآخرون (فصلوا البدل والقمصان) وقصدوا القصر (عديل) على الأقل لأداء القسم.. وهذه الحالة التي تعيشها بلادنا منذ شهر “نوفمبر” الماضي ربما امتدت حتى “أبريل” القادم في ظل الواقع الراهن، فالأحزاب التي فاق عددها الـ(70) حزباً كل حزب ينتظر ما تجود به السماء لإشباع رغبته في السلطة، ولا تحدث تلك الأحزاب نفسها بالتجمع في كيانات كبيرة بعد أن انفضت من حيث المبدأ على وثيقة أساسية في كيفية حكم البلاد.. وحتى الكيانات المتشابهة ترفض الوحدة، لأن طبيعة السوداني الموروثة تميل للفردية وتنبذ الشراكة حتى في التجارة، ما اشترك سودانيون في مشروع إلا ودبت الخلافات وسطهم، وكل الأحزاب اليوم تعاني من تصدعات كبيرة وتشظيات، لذلك أصبحت أحزابنا أحزاب أفراد وأنديتنا أندية أفراد.. فلا عجب إن تعطلت مصالح المواطنين بسبب الفراغ العريض الذي يعتري جسد الدولة والحكومة في الوقت الراهن، حتى يكتب الله لنا مخرجاً من حالة لا يعرف معها أي مسؤول مصيره في قادم الأيام إلا الرئيس “البشير”، فهو الثابت سياسياً، والبقية ربما تعصف بهم المتغيرات من مكان إلى آخر.. قد يكون الشارع أو البرلمان أو موقعاً أكثر بريقاً ولمعاناً.