رأي

بعد ومسافة

بين القاضية الأمريكية و”القاضي” السوداني
مصطفى أبو العزائم

ليس لديَّ أدنى شك في أن الولايات المتحدة دولة كبرى، ليس بقوتها المادية فقط، بل بمؤسساتها الدستورية والتشريعية والقضائية، ومنظمات المجتمع المدني المناصرة لحقوق الإنسان والداعية للعدالة والحرية والمساواة، والمجتمع الأمريكي بصورة عامة هو مثال لتطور الإنسان، وتقدم البشرية، ويقوم على منظومة من القيم التي تمنح الفرد أعلى درجات الحرية، لكنها أيضاً تمنح المجتمع أعلى ما يمكن أن يمنح من حقوق في محاسبة الخارجين عن تلك القيم، لذلك لم أعجب لقرار الرئيس الأمريكي “دونالد ترمب” بتقييد دخول مواطني عدد سبع دول إلى الولايات المتحدة، لأن هذا هو ما كان ينادي به خلال حملته الانتخابية، وهو حقيقة ما يعتمل داخل صدور عدد من الأمريكيين ذوي العقول المسيحية المتدينة البيضاء، المسنودين بتعاليم العهد القديم (التوراة) والتلمود ، أو بصورة أدق هو ما يعتمل داخل صدور الأمريكيين المتدينين الأكثر تطرفاً، والذين قد نمت في داخلهم بذرة التطرف الصامت منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، والتي لم يشارك فيها أي مواطن من مواطني هذه الدول التي شملها القرار.
مثلما أننا لم نعجب لقرار الرئيس الأمريكي “ترمب” فإننا بالمثل لم نعجب للهجمة القوية في وجهه بعد هذا القرار، من قبل سياسيين، وناشطين اجتماعيين ومؤسسات وقضاة، ومثال لذلك تدخل قاضية أمريكية من خلال إحدى المحاكم الفيدرالية لمنع ترحيل لاجئين ومسافرين، تم إيقافهم في مطارات أمريكية بعد قرار الرئيس “ترمب” والمتضمنة أيضاً تعليق برنامج قبول اللاجئين، وتعليق السماح بدخول الزائرين القادمين من عدد من الدول المسلمة، وقد أصدرت هذه القاضية أمراً بوقف مؤقت لذلك القرار، وكذلك قدم الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية طعناً قانونياً ضد الأمر التنفيذي الذي أصدره “ترمب” يوم (السبت) الماضي.
التظاهرات في ست عشرة ولاية أمريكية، ضد قرارات الرئيس “ترمب” ووصفها بالعشوائية، ومناهضة عدد من المنظمات لها ردة الفعل الغاضبة في كثير من الدول، قد لا تثني “ترمب” عن هذه القرارات، لكن الديمقراطية ستسقطها بالتأكيد، فليس كل ما يقول به الرئيس هو الصحيح. ردة الفعل السودانية الرسمية كانت متوقعة، لأن تضمين اسم السودان في هذه القائمة لم يكن متوقعاً، وقد ذكرت رأياً حول الموقف السوداني، وجدت فيه تطابقاً مع رأي لصديقنا الدكتور “فتح الرحمن القاضي” الناشط الحقوقي المعروف ورئيس جماعة (مدافعون عن حقوق الإنسان) يمكن إيجازه في أن الحرص على تعزيز العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، لا ينبغي أن يكون على حساب الكرامة الوطنية، خاصة وأن هذه الإجراءات طالت سيدة سودانية محترمة تم تفتيشها في أماكن حساسة وفق ما ذكرت هي، ووضعت القيود الحديدية على يدها، رغم أنها تحمل البطاقة الخضراء، ولديها إقامة دائمة في الولايات المتحدة، إلى أن أنصفها القضاء الأمريكي الحر في سابقة تدعو إلى التقدير، كما ذكر الدكتور “القاضي” في رأيه الذي بعث إليَّ بصورة منه.
وتضمن الرأي ذاك ضرورة أن يتم التعامل بالمثل، وقد حدث من قبل أن حدَّت الخارجية الأمريكية من حركة الدبلوماسيين السودانيين في نيويورك، بحيث لا يتجاوز تحركهم دائرة نصف قطرها لا يتجاوز الخمسة وعشرين ميلاً، وعقدت من إجراءات حصول الدبلوماسيين السودانيين على التأشيرة، فما كان من وزارة خارجيتنا إلا أن أصدرت قراراً مماثلاً يقيِّد حركة الدبلوماسيين وأصدرت قراراً آخر يقضي بحصول الدبلوماسيين الأمريكيين على التأشيرة من البرازيل، وفي هذا استنزاف للجهد والوقت نسبة للقيود التي كانت تفرضها الخارجية البرازيلية على الأمريكيين، إضافة إلى أن السفر من الولايات المتحدة للبرازيل يستغرق وقتاً طويلاً، بعد الوصول إلى هناك يتعيَّن على الأمريكيين الحصول على تأشيرة الدخول للسودان.
تلك الإجراءات أدت إلى إلغاء الإجراءات الأمريكية المتعسفة، لذلك ليس أقل من أن تحتج الخارجية السودانية على المعاملة غير اللائقة التي تعرضت لها تلك السيدة السودانية التي تقيم إقامة دائمة في الولايات المتحدة في مطار (JFK)، ولا بد أن تقوم العلاقة بين البلدين على قاعدة صلبة من الندية بحيث لا تصبح عرجاء تميل لخدمة طرف دون الآخر.
على السودان الآن أن يطالب إدارة الرئيس “ترمب” ومن خلفه الحزب الجمهوري الحاكم، باحترام الحريات الدينية ورعاية مبادئ حقوق الإنسان والمساواة بين معتنقي المسيحية واليهودية والإسلام، لأن هذه القرارات ثبت عملياً أنها تكرس للتمييز الديني وتستهدف المسلمين وتصفهم جميعاً في موضع الاشتباه بالانتماء إلى الإرهاب، وهذا تصنيف ظالم، ما في ذلك شك.
قطعاً لن يكون هذا هو آخر المطاف، أو آخر القرارات الظالمة المتوقعة رغم أننا نتمنى أن يكون أول القرارات وآخرها.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية