محاضرة الشيخ "محمد سيد حاج" عن عذاب القبر ونعيمه (1)
تنشرها (المجهر) على حلقات
رصدها – خالد الفاضل
تعميماً للفائدة، نقدم لكم عبر هذه المساحة مجموعة من محاضرات الشيخ الراحل “محمد سيد حاج” عبر الكلمة المكتوبة المنقولة من التسجيلات الصوتية بدقة وبدون حذف أو تعديل، راجين أن يكون هذا مساهمة في نشر ما تركه الراحل الجليل من تركة ثمينة من المحاضرات الدينية القيمة.. يقول الشيخ “محمد سيد حاج”:
عباد الله.. من تأمل أحوال الكثيرين من أهل الدنيا حيث تستغرقهم الشهوات وتستهويهم الملاهي وتستحكم فيهم الغفلة والملذات، يغدون في لعب ويروحون في ضحك، إن أعطوا ما شبعوا وإن منعوا ما قنعوا.. يعيشون في دنياهم وحركتهم قد جفت من مضامين الإيمان وعوالم الغيب، وأشواق الروح ضلت في الدنيا أفهامهم، واختلت في حركة الحياة موازينهم، تجدهم في مادية بحتة، لا صلة لهم بالآخرة ولا بعالم الغيب، رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها غاية مناهم اللذة العابرة والمتعة الزائفة (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا).. (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).. (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)، وأن هذه الحركة الدهرية الإلحادية في العالم كله تلقي بظلالها على عالمنا الإسلامي ضعف تعلق الناس بالغيب، وضعف يقين الناس في الآخرة وكأن الآخرة أمر بعيد عند كثير من الناس.. الآخرة ليست من أولوياته، ولا من أجندته، ولا جزء من تفكيره.. إنه يعيش هكذا كما يعيش الناس دون رابط ورادع وضابط يرجعه إلى الله عز وجل.. (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).. ضعف الإحساس بالغيب وضعف اليقين بالآخرة، لذلك على كل مسلم أن ينتقل أحياناً من هذه العوالم الصاخبة اللاغية اللاهية إلى عوالم أخرى تذكره.
قال “صلى الله عليه وسلم”: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور الآن زوروها فإنها تذكركم الآخرة).. رواه “مسلم”.. وكأن عليه الصلاة والسلام يريد المسلم وهو يعيش في وسط الحياة ويمشي في مناكبها ويحيا مع الناس بجسده غير أنه بين الحين والحين يلتفت التفاتة إلى عالم الغيب والآخرة، حيث أهل القبور، وعلينا أن ننتقل قليلاً من عالم الهموم ودنيا المشاكل التي نعيشها إلى أهل القبور، اللحود مساكنهم والتراب أكفانهم والدود أنيسهم، شربت الأرض دماءهم وأكلت لحومهم، أموالهم قسمت، وزوجاتهم زوجت، وقصورهم ودورهم سكنت بغيرهم.. الزوجات إلى آخرين والأموال إلى الوارثين.. (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم).. المؤمن يعيش في دنياه وهو مرتبط بالآخرة وفكره في الآخرة، ويحيا لأجل الآخرة، ليس كحال أهل الملاهي والمعاصي الذين يعيشون في دنياهم حياة أقرب إلى حياة الملحدين، طعام وشراب ولذة وشهوة ورقص وغناء ومجون وقليل من الصلاة وقليل من العبادة في مناسبات متفرقة، إما من (الجمعة) إلى (الجمعة) أو العيد إلى العيد، استحكمت الغفلة في حياة كثير من الناس.. الحديث عن الغيب من ثوابت اليقين ومن قطعيات الإيمان ولا سيما القبر نعيماً وعذاباً.
بعض الناس أصابهم الشك في قضية عذاب القبر، وعذاب القبر ثابت والبخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية كانت تتسول فجاءت إلى عائشة رضي الله عنها في بيتها فأعطتها عائشة طعاماً فقالت لها اليهودية: (أعاذك الله من عذاب القبر). فسألت عائشة الرسول “صلى الله عليه وسلم” عن ذلك، فقال: (نعم عذاب القبر) رواه البخاري ومسلم. إن بعض اليهود يؤمنون بعذاب القبر وبعض المسلمين لا يؤمنون بعذاب القبر.. إن الحديث عن القبر بالنسبة للمؤمنين الذين إذا نظروا إلى القبور نظروا بعبرة وبفكرة يعرفون أنهم سينتقلون إليها في يوم من الأيام.. وقف النبي “صلى الله عليه وسلم” على قبر لما ينحت بعد والحديث عند “ابن ماجة” في السنن.. وقف عليه وجرت مدامعه “صلى الله عليه وسلم” وقال: (أي إخواني ألا لمثل هذا فأعدوا)، وهو القائل والحديث في “الترمذي”، وما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه. كيف لا وعذاب القبر ونعيمه وسؤاله ثابت وواضح، لكن كن ممن ينظرون إلى الدنيا بعين البصيرة ويتعمقون فيها.. نحن نعيش على هذه الأرض والذين ماتوا وتحللوا وصارت قبور كثير منهم بيوت ومساكن.. الذين ماتوا قبل آلاف السنين أين قبورهم؟ إن قبورهم هي البيوت التي نسكن عليها والعمارات التي نشيدها.. نظر “علي” رضي الله عنه وهو يشرب من جرة فخار، نظر إليها وهو متأمل كم فيها من خد أسيل وطرف كحيل صارت تراباً وعجن العاجن التراب فصارت فخاراً وصار قلة تشرب منها.. هذا فكر السلف في حديث “زيد بن ثابت” في صحيح مسلم دخل النبي “صلى الله عليه وسلم” حائط لبني النجار وهو على بغلته فحادت البغلة حتى كادت أن تسقطه فقال: (أثمة قبور هنا)، قالوا: (هذه قبور خمسة ممن ماتوا في الجاهلية)، قال: (إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ولولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم بعض الذي أسمع)، قال زيد: (ثم استقبلنا بوجهه ثم قال: استعيذوا بالله من عذاب النار، قلنا: نستعيذ بالله من عذاب النار، قال: استعيذوا بالله من عذاب القبر، قلنا: نستعيذ بالله من عذاب القبر، قال: استعيذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، فاستعاذوا قال: استعيذوا بالله من فتنة الدجال)، وفي رواية أن هذه الأمة تبتلى في قبورها فتنة قريبة من فتنة الدجال. فتنة الأمة في قبورها قريبة في شدتها من فتنة الدجال، وفي الصحيحين من حديث عائشة قال النبي “صلى الله عليه وسلم” عن سعد بن معاذ: (هذا الذي تحرك عرش الرحمن لموته وفتحت له أبواب السماء وشيعه سبعون ألف ملك ضمه القبر ضمة ثم فرج عنه) رواه البخاري ومسلم. وفي حديث “الترمذي” قال النبي “صلى الله عليه وسلم”: (يضم القبر المؤمن ضمة حتى تتحرك حمائله)، وهو العظم الذي يحمل البدن، وفي هذا دليل على أن عذاب القبر يقع على الروح والجسد معاً وإلا لما قال اختلجت أضلاعه وضمة القبر ويعبر عنها بضغطة القبر، وهي أن جوانب اللحد تجتمع إلى بعضها البعض على الميت، ترجع إليه روحه ويحس الألم ببدنه ولو كان مصلوباً ولو كان في قاع البحر ميتاً ولو كان في بطن سبع أو نسر أو كان قد حرق بالنار، فإن الله يجمعه ويذيقه من العذاب إن كان يستحق ويقلبه في النعيم إن كان يستحق.