ما بعد القرار (2)
ليس أمام الحكومة السودانية صعوبات كبيرة لتعود للاندماج في المجتمع الدولي عضواً معافى من أمراض غشيته يوماً ما، ولكنه بإرادة قوية خرج من مستشفى المصابين بلوث الماضي.. وما تحقق من إنجاز للدبلوماسية السودانية لا سبيل لقطف ثماره النهائية بعد حلول يوليو القادم إلا بتنفيذ حزمة مطلوبات سهلة وميسورة جداً إذا توفرت عزيمة الحل، واقتنعت القيادة بأن طريق التسويات هو المخرج الآمن من نفق الأزمات بعد تجريب سلاح المواجهة.. والرفض.. والممانعة.. وأول المطلوبات من الحكومة السودانية أن تكبح جماع العنف.. وتتوصل إلى تسوية تؤدي لوقف الحرب عاجلاً في المنطقتين ودارفور، وللتسوية أيضاً مطلوبات أولها فتح ممرات الإغاثة للوصول إلى المحتاجين مع أن الواقع يقول لا حاجة للغذاء في المناطق التي تسيطر عليها الحركة الشعبية باعتبار أن دارفور تقع جميعها الآن تحت سيطرة الحكومة السودانية، والسماح بمرور الإغاثة سواء عبر المبادرة الأمريكية التي وافقت عليها الحكومة ورفضتها الحركة الشعبية أو من خلال اتفاق جديد لتمرير المساعدات الإنسانية يفتح أبواب التفاوض دون شروط من حملة السلاح، ويمكن للولايات المتحدة أن تعيد دورها المحوري في المفاوضات على غرار ما جرى في “نيفاشا”.. وبالطبع قد تغيرت نظرة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحركة الشعبية (نسخة الشمال) بعد فشل الحركة الأم نسخة الجنوب في إقامة دولة قابلة للحياة، وأصبح الأمريكيون بمن فيهم “بندر قاست” عراب المفاوضات الخفي وصديق الحركة الشعبية على قناعة بأن النسخة الشمالية من الحركة ليست بأفضل من الجنوبية، إن لم تفقها سوءاً.
لكن التوصل لاتفاق ينهي الحرب في المنطقتين يمثل أولى خطوات النجاح، وهو مطلب ملح وضروري أن تبدل الحكومة لغتها من (ترق منهم دماء أو ترق كل الدماء) إلى دعوة المعارضين وحاملي السلاح للتفاوض والتسوية على أساس مقررات الحوار الوطني، ونبذ العنف اللفظي مع المعارضة التي لا تحمل السلاح والالتزام بنصوص الدستور بشأن الحريات من التعبير إلى التنظيم وحرية الحركة بإيقاف قوائم حظر السفر.. ووقف مصادرة الصحف وإلغاء قرارات حظر بعض الكُتّاب عن ممارسة حقوقهم الدستورية.
والولايات المتحدة ليست مدينة فاضلة، ولا هي جزيرة ديمقراطية وواحة حريات.. لكن حكوماتها تظل أسيرة للوبيات الضغط الداخلي وجماعات مناصرة الشعوب، ولأن الحكومة الأمريكية منتخبة من شعبها فأنها تحترم الرأي العام.. وطبيعي جداً أن تنشط منذ اليوم مجموعات الضغط اليهودي ذات الأثر الكبير على تشكيل الرأي العام الأمريكي في تحريض إدارة “ترمب” على الخرطوم.
المطلوبات الأخرى من الحكومة السودانية، أن تمضي بذات الخطى في محاربة الإرهاب والهجرة غير الشرعية وتطالب الأوروبيين والولايات المتحدة بتقديم مساعدات فنية للقوات التي تكافح الإرهاب والهجرة على الأرض.. سيارات وطائرات رصد ومتابعة.
وعلى الجبهة الاقتصادية ثمة ضرورة ملحة للاستقرار في سياسة رفع الدعم عن المحروقات والدقيق، والالتزام بوصفة صندوق النقد الدولي، وإصلاح القوانين التي تنظم العمل المصرفي وذلك لسد أية ثغرات تتسرب من خلالها أموال الغسيل التي أصبحت مهدداً لاقتصاد الدول الكبرى.. وقد ألقت الحكومة القبض على عدد من المشتبه بهم في تجارة غسيل الأموال، وأذعن البنك المركزي لشروط وزارة الخزانة الأمريكية بإرغام كل عملاء البنوك السودانية على الإجابة عن أسئلة شخصية تصل حد الخصوصية وتقديمها إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وأخيراً، على الحكومة أن لا تظن أن قرارات رفع الحظر الأمريكي تعني إطلاق يدها لتفعل بشعبها ما تشاء دون اعتبار لضرورات السلام وكبح العنف وإفشاء لغة السلام بدلاً عن لهجة الحرب.