بعد ومسافة
“التيجاني الماحي”.. قراءة في سير الكبار
مصطفى أبو العزائم
من بين مولده في مدينة (الكوة) بالنيل الأبيض في السابع من يناير 1911م، وحتى انتقاله إلى رحمة الله تعالى في الثامن من يناير 1970م، تسعة وخمسون عاماً ويوم.. لم تمض أيام عمره هباءً بلا قيمة، ولم تجرفها آلات الزمن مثلما تجرف كل ما لا جذر له ولا فائدة، فقد كانت حياة الراحل المقيم البروفيسور “التيجاني محمد الماحي” غنية بالعطاء والإنجاز الحق، وأصبح خلال هذه الرحلة القصيرة من أكثر السودانيين أثراً وتأثيراً على مجتمع بلاده، وتولى رئاسة مجلس السيادة عقب ثورة أكتوبر 1964م، وهو في النصف الأول من عقده الخامس.
نكتب عن البروفيسور “التيجاني الماحي” اليوم بمناسبة مرور (46) عاماً، على رحيله – رحمه الله – قبل أيام قليلة، ونحن نفتقد كتابات البروفيسور “قاسم عثمان نور” ” شفاه الله وأمد في أيامه” الذي درج على الكتابة عن الراحل المقيم في ذكرى وفاته كل عام، وصديقنا البروفيسور “قاسم” رجل عالم وباحث دقيق لكنه قبل ذلك وبعده رجل وفي لوطنه ورموزه وأهله.
نعود لشخصية البروفيسور “التيجاني الماحي” وهي شخصية لا نحسب أنها سوف تتكرر لأسباب عديدة رغم أننا لم نحتفي بالرجل احتفاءً يستحقه، ويظل بالنسبة لصاحبكم أنموذجاً نادر الوجود بما جمع من معارف ومواهب وعلوم وقدرات وهو الشخص الذي تمنى صاحبكم من صميم قلبه لو أنه التقى به حتى يتم التعرف عليه شخصياً وعن قرب.
كانت سيرة الرجل الكبير البروفيسور “التيجاني الماحي” سيرة شخصية أقرب للأسطورة منها إلى الحقيقة، وللخيال منها إلى الواقع، ونحمد للأستاذ الكبير البروفيسور “قاسم عثمان نور” أنه جمع مادة ثرة هي عبارة عن مقالات كتبها مقربون وعلماء وتلامذة أوفياء البروفيسور “التيجاني الماحي” جمعها في كتاب حمل اسم الدكتور “التيجاني الماحي” 1911 – 1970م، مجموعة مقالات بمناسبة مرور ربع قرن على رحيله، وقد صدر الكتاب بالخرطوم عام 1996م، وجمع مقالات للأساتذة “بدر الدين سليمان” الاقتصادي المعروف وهو ابن شقيق البروفيسور “التيجاني الماحي” وتولى أمر طباعة الكتاب وفق مقدمة البروفيسور “قاسم نور” ابن شقيقه الثاني الأستاذ “غازي سليمان” المحامي – رحمه الله – وضمت دفتي الكتاب صفحات بأقلام الأساتذة “محجوب عمر باشري” والدكتور “عبد المجيد عابدين” والبروفيسور “حسن أبشر الطيب” والدكتور”جعفر محمد علي بخيت” و”قلوباوي محمد صالح”
و”أحمد محمد شبرين” والبروفيسور “عبد الله علي إبراهيم” والبروفيسور “علي المك” والدكتور “طه بعشر” والدكتور”أحمد الصافي” والدكتور “الزبير عباس عمارة” و”صالح بانقا صالح” (ابن البان) وغيرهم كثير.
تمنيت لو أن ساستنا قرأوا هذه السيرة البهيرة الجهيرة الصاخبة بالمستحدث في العلوم والمعارف والغيبيات والإدارة، مثلما تمنيت لو أن سيرة هذا الرجل الكبير ضمنت في المقررات المدرسية حتى تتعرف عليه الأجيال التي لم تعش عصره، فقد كان أول سوداني يتخصص في الطب العقلي بجامعة لندن وأول من أسس عيادة للطب النفسي، وعمل مستشاراً لهيئة الصحة العالمية بمنطقة شرق المتوسط، واختير نقياً لأطباء السودان، وكان عضواً عاملاً باللجنة التنفيذية للاتحاد العالمي لأطباء الصحة العقلية، واختير عضواً بالمجمع اللغوي بالقاهرة، حارب ضمن المتطوعين خلال فترة العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة عام 1956م.
البروفيسور “التيجاني الماحي” امتلك أكبر مكتبة خاصة على مستوى العالم العربي، تبرع بها بعد وفاته إلى جامعة الخرطوم حسب وصيته، وكان ملماً بعدد من اللغات القديمة مثل الهيروغلوفية واللاتينية وعدد من اللغات الأخرى مثل الهوسا والفارسية غير العربية والإنجليزية، ووضع كتاب.. “مقدمة في تاريخ الطب العربي”، الذي يعتبر أحد أهم المراجع في هذا الحقل، وكان موهوباً يعزف على عدد من الآلات الموسيقية، وكان وطنياً صادقاً أجمع عليه السودانيون عقب ثورة أكتوبر ليكون ضمن أعضاء مجلس السيادة.
هذا الرجل الكبير.. ألا يستحق منا تكريماً يليق به وبما قدم؟ ليتنا فعلنا..
اللهم تب علينا وارحمنا وأعفى عنا يا رب العالمين.. آمين.
.. و.. جمعة مباركة