حوارات

(المجهر) تقلب أوراق العمر مع البروفيسور "عبد الله أحمد عبد الله" رئيس مفوضية الانتخابات 3

عندما هممت بمغادرة مكتبي إلى المنزل اتصل بي الرئيس “نميري” من التلفون السري، عندما رفعت السماعة جاءني صوته قائلاً: “أنا جعفر نميري وين أنت؟”، قلت ليه: “بدأت الملم أوراقي وماشي البيت”، قال لي: “ما تمشي البيت تعال لي بقاعة الصداقة”. وبالفعل اتجهت إلى قاعة الصداقة، وقبل أن أقابل الرئيس “نميري” أذكر أنه كانت قد كُونت لجنة لتطبيق الحكم الإقليمي برئاسة مولانا “أببل ألير” وأنا نائبه، وعكفت اللجنة في عملها لثمانية أشهر واقترحنا ستة أقاليم لذلك: الشرق، والوسط، وكردفان، ودارفور، والشمالية، وبعد أن فرغنا من عملنا كتبنا مذكرة ضافية ومتكاملة لتطبيق الحكم الإقليمي، وانعقد المؤتمر العام للاتحاد الاشتراكي ووافق على العمل، ومن ثم جاءت مرحلة التطبيق، فبدأ الرئيس “نميري” التفكير في كيفية التطبيق ومن هم الحكام الذين سيشغلون تلك المواقع، والحكم الإقليمي كان يطبق على ثلاث مراحل، مرحلة الحاكم المكلف، والمعين، والحاكم المنتخب، وإثناء التفكير في اختيار الحكام الذين يشغلون المواقع بدأت الإشاعات حول بعض الأسماء المرشحة، مثلاً كان هناك حديث حول اختيار “أبو القاسم هاشم” للجزيرة، و”عز الدين السيد” للإقليم الشمالي، و”الرشيد الطاهر” للشرق، لذلك عندما طلبني “نميري” لمقابلته بقاعة الصداقة قال لي: “لقد بدأت أفكر في اختيار حكام للأقاليم مكلفين، وكل الإشاعات التي نسمع بها غير صحيحة وأنا ما نمت بالخيرة لأي واحد منهم”، ضحكت وقلت له: “يا ريس وأنا دخلي شنو وأنا لم أكن واحداً منهم”، قال لي: “أنا اخترتك لتكون حاكم مكلف للإقليم الشمالي”، ضحكت وقلت له: “أنا يا ريس؟”، قال لي: “آي”، قلت له: “أولاً أنا مستغرب ومندهش”. وهذا لم يكن على بالي وما كنت متوقع أن أمشي زيادة في السياسة، فعندما كنت وزيراً الجانب المهني فيها كبير، لكن الحاكم الجانب السياسي هو الأكبر، والجانب المهني يتلاشى، وقلت له: “يا ريس حقوا تعفيني”، قال لي: “لا، أنا باقي عليك”، قلت له: “طيب أديني مهلة أشاور، الحكاية كبيرة”، قال لي: “تشاور منو؟”، قلت ليهو: “أشاور زوجتي وشقيقي”، قال لي: “ما توسع الشورى لأني ما عاوز الخبر يطلع، وأنا لم أبقى على أي إقليم آخر”، قلت ليهو: “حاضر يا ريس”. أثناء ما أنا ماشي قام كورك لي: “يا بروفيسور أنا للإقليم الشمالي ما عندي غيرك”.
{ ماذا فعلت؟
– رجعت وقعدت في الكرسي مرة ثانية، وقلت ليهو: يا ريس أنا موافق.
{ وماذا قال لك؟
– قال لي: خليتها ليه؟ قلت ليهو: ما دام رئيس الجمهورية قال لي ما عندي غيرك للإقليم الشمالي، أولاً أنا أشكرك على هذه الثقة، لكن أود أن أسألك لماذا اخترتني؟
{ وماذا كان رده؟
– عاين لي وقال: أنا عملت الخيرة، وفي تقديري أن أهلنا في الإقليم الشمالي لا يجتمعون ولا يقبلون أي شخص يكون عليه خلاف، لكن في تقديري أنت لا أحد سيختلف عليك، لا ناس الشمالية ولا ناس نهر النيل ولا الرباطاب. ثانياً أنت رجل زراعي وقد ساعدتنا كثيراً في المجال الزراعي والإقليم الشمالي يحتاج أيضاً لمساعدتك في هذا الجانب.
{ وماذا كان ردك؟
– قلت ليهو: كتر خيرك.
{ هل تم تعيين حكام معك؟
– لم يتم التعيين وقتها، ولكن بعد فترة تم تكليف “حامد علي شاش” للإقليم الشرقي، و”علي محمود” للإقليم الأوسط، و”دريج” لدارفور، و”بكري عديل” و”المرضي” لكردفان، وهذه كانت بداية الحكم الإقليمي، ووقتها كنت الحاكم المكلف بدون سلطات، ثم جاءت الفترة الثانية فتم تعييني، ومارست سلطاتي وفقاً للقانون، فظللت لعام ونصف العام حاكماً معيناً، واخترت حكومتي من الوزراء أصحاب الكفاءات العالية، فكان “عبد الوهاب عثمان” وزيراً للمالية، و”عبد الله علي جاد الله” وزيراً الزراعة والمرافق العامة، و”عبد اللطيف عبد الرحمن” للتعليم والصحة، أما “علي فقيري” و”بدوي الخير” فكانا يمثلان الجانب السياسي، والحكومة كانت متفاعلة فأنجزت العديد من الأعمال، وكانت متفاعلة مع الجماهير، وشملت الجعليين والشايقية والمحس، وانصب جهدنا في الجانب التنموي والخدمي والسياسي.
{ انتهت فترة الحاكم المكلف والمعين وجاءت فترة الحاكم المنتخب.. كيف جرى انتخابك؟
– بعد انتهاء فترة عملي كحاكم معين لم أكن راغباً مرة أخرى في شغل منصب الحاكم، لذلك مورس عليّ ضغط وجرى اختيار ثلاثة أشخاص من قبل الاتحاد الاشتراكي يمثلون الحكومة، وثلاثة آخرين يمثلون المعارضة، وأنا كنت ضمن الثلاثة الذين يمثلون الحكومة فوافقت، لكن بشرط ألا أقوم بأية حملات انتخابية فتمت الموافقة.
{ هل تذكر الثلاثة المرشحين من قِبل الحكومة؟
– شخصي و”عبد الله علي جاد الله”، و”محمد الحسن عوض الكريم”، أما الثلاثة الآخرون فـ”سيف الدين الزبير حمد الملك”، و”أبو شوك” وشخص ثالث.
{ على كم صوت حصلت؟
– رغم أنني اعترضت على إجراء أية حملة انتخابية إلا أنني حصدت كل الأصوات، وكنت الأول، فأصبحت حاكماً للإقليم الشمالي المنتخب لمدة خمس سنوات، وظللت في موقعي حتى الانتفاضة 1985م، وقد أنجزت العديد من الأعمال التي خدمت سكان الإقليم الشمالي.
{ لقد ربطت بينك والرئيس نميري علاقة طيبة.. ما هي المواقف التي تذكرها له؟
– أذكر وأنا وزير للزراعة جاءت إلى البلاد بعثة صندوق النقد الدولي، و”عثمان هاشم” كان يشغل منصب وزير الدولة بالمالية، فجاءت البعثة وقامت بعملها بوزارة المالية بنفس النمط الذي كانت تعمل به عندما تأتي إلى السودان، وقبل التوقيع بيوم اتصل بي وزير الدولة “عثمان هاشم” وأخبرني أن المندوب عن رئيس بعثة صندوق النقد ويدعى “النشاشيبي” سيأتي إليك للحديث معك في فرع من أفرع الزراعة الذي سُيضمن في الاتفاقية وسيناقشك فيه، وقتها لم تتم مشاورتي في ذلك، قلت له: خليه يتفضل. عندما قابلته أطلعني على ما تم الاتفاق عليه مع وزارة المالية بزيادة زراعة القطن بنسبة (10%) وعدد من السياسات الزراعية، فقلت له: دا عملوه ناس المالية؟ قال لي: نعم، قلت له: دا أنا كله ما موافق عليه، لا إنت ولا وزير المالية شاورتوني، فإذا أردتم أن توقعوا فوقعوا براكم.. أنا معترض على ذلك، ولن أدخل معك في نقاش وما عندي معاك شغلة، جيت وريتني قلت ليك ما عاوز، والشغل دا كله غلط.. وأنهيت الاجتماع بزعل.
{ وماذا فعل؟
– ذهب مني وقال ليهم وزير الزراعة طردني، اتصل بي “عثمان هاشم”، قلت له: قال ليكم شنو؟ قال طردته، قلت له: أنا باقي لي طردته، قلت ليه تعمل عمل مع صندوق النقد وأنا وزير الزراعة وبروفيسور تعملوا سياسات في الزراعة وأنا ما أكون عارف. كلم وزير المالية وأنا وزير الزراعة غير موافق اشتكوني للريس “نميري” ولكن لم يخبروه بالحقيقة.
{ وماذا قال لهم “نميري”؟
– قال ليهم أرجعوا للبروفيسور حتى يقتنع، ومن ثم ابدأوا التوقيع، اتصل بي “عثمان هاشم” قلت له: متى سيتم رفتي؟ قال لي: “نميري” قال يرجعوا ليك. قلت له: غداً ستكون عندي ورقة جاهزة، وبالفعل طلبت ناس وكتبناها بالليل، وفي اليوم التالي جاءني “عثمان” وحمل الورقة وضمّنها للاتفاقية.
 { وواقعة أخرى؟
– أذكر أيضاً أن بعض الشركات كان تستولي على القطن من المزارعين ولم تعطهم حقهم، فجاء شخص من المالية وأخبرني، قلت له أبلغ الشرطة وفعلاً الشرطة حجزت على القطن، فقالوا لي: إنت ما مسؤول، قلت ليهم: أنا المسئول عن حقوق المزارعين وهذه الورش حقت المزارعين، وقلت ليهم: إنتو تأخذوا البذرة والقطن ولم تعطوا المزارعين حقهم. واشتكوني لـ”نميري”.
{ وماذا قال لهم “نميري”؟
طلب منهم العودة إليّ حتى يتم الاتفاق بيننا، وبالفعل جاءوني وتم الاتفاق.
أما المشكلة الثالثة فكانت مع “عدنان خاشوقجي” وسبق أن منحه “أبو القاسم محمد إبراهيم” مليون فدان لاستثمارها في المجال الزراعي لكنه لم يستثمرها وبدأ التجارة بها، وعندما توليت منصب وزير الزراعة طلبت ملفات الاستثمار، فوجدت من بين الملفات ملفاً لـ”عدنان خاشوقجي” وطلبت مندوبه، وعندما قابلني أخبرته بأن الأرض داخلة في منطقة الدندر.. ثانياً أن الأرض لم تُستثمر، وقلت له: سوف أمنحكم ستة أشهر ومن ثم فكروا ماذا ستعملون، بعد انقضاء فترة الستة أشهر لم أر عملاً قاموا به، وكان معتمداً في ذلك على القصر.
{ وماذا فعلت معهم؟
بعد انقضاء الستة أشهر جاءني المسؤول عن الاستثمار الدكتور  “عمر مختار” قلت له: لقد منحنا مندوب “خاشوقجي” ستة أشهر لكن لم يفعلوا شيئاً فأطلبه، وعندهما جاء أخبرناه بأن الفترة انتهت وسوف نشرع في إجراءات نزع الأرض، لم يصدق، فاتصلت بالأستاذ “حسن عمر” الذي كان يشغل منصب المدير العام وطلبت منه تزويدي بالمخارج القانونية في القضية حتى أتمكن من إعادة الأرض للسودان، وبالفعل زودني بكل المعلومات القانونية، وقلت له: سوف يأتيك خطاب لنزع الأرض.
{ وماذا فعل مندوب “خاشوقجي”؟
– ذهب إلى القصر واتصل بـ”بهاء الدين محمد إدريس” وزير شؤون الرئاسة.
{ وماذا قال له “بهاء الدين”؟
– طلب منه “بهاء الدين” مقابلتي، فجاءني يحمل خطاباً في يده، وعندما بدأ معي الحديث قال لي: هذا الخطاب، قلت ليه: خليه معاك، ثم سألته: من أين الخطاب؟ قال لي: من بهاء الدين، قلت ليه: كتر خيرك رجع الخطاب لـ”بهاء الدين” لأن وسيلة الاتصال بيني وبين “بهاء الدين” ما أنت.. فـ”بهاء” وزير وأنا وزير ولدينا وسائل اتصال فيما بيننا، ولو “بهاء الدين” عايزني سيطلبني عن طريق التلفون أو يحضر إليّ أو أذهب إليه، لكن يديك خطاب عشان تديني ليه فأنا أرفض ذلك. أمشي رجع الخطاب لـ”بهاء”.
{ وماذا فعل؟
– قال لي “بهاء الدين” مشى اشتكاك لـ”نميري” و”نميري” قال ليه ما تتدخلوا في شغل البروفيسور.
{ وماذا كان يحوي الخطاب؟
– الخطاب لم تكن فيه أوامر بالنسبة لي وكان عادي كما فهمت، ولكن كنت أريد أن ألقن الخواجة درس وما يعمل حاجة تاني زي دي.
هذه تجربتي مع الرئيس “نميري”، فطالما تقوم بعملك بكل جرأة وبتعتمد على نفسك وما بترجع ليه كتير وتسأل عن أشياء في العمل فهو يحترمك، وإذا أخطأت عليك أن تتحمل الخطأ.
{ هل أنت الوزير الوحيد الذي كان يحظى باحترام “نميري”؟
– عدد كبير من الوزراء كانوا يحظون باحترام “نميري”، وكانوا يؤدون عملهم بكل جرأة وصدق وشفافية.
{ وعن إقالته للوزراء؟
– هناك أسباب تستدعي الإقالة، ولكن أحياناً كان بيتسرع في إنهاء خدمات الوزراء، ولكن عند اختيارهم كان بيدقق، وما كان بيختار الوزراء إلا من أصحاب الكفاءات العالية، ونادر ما كان يختار وزير لعدم كفاءته، وخلال فترة عملي معه كان اختياره مبنياً على قدرات الأشخاص. وأذكر أن أحد الأشخاص سبق وأن سأل “نميري” عن كيفية اختياره للوزراء، وهل هناك ميول لناس محددين.
{ وماذا قال له “نميري”؟
– قال ليه: لو كنت بختار الوزراء للقبيلة ما كان عندي في يوم من الأيام سبعة وزراء من جزيرة واحدة، وكان يعني جزيرة مقرات ورباطاب.
{ وكيف اختارك نميري وزيراً للزراعة؟
– حتى الآن لم أعرف السبب ولم أعرف الشخص الذي زكاني، ولكن شككت في أحد الأشخاص، وربما كان “عباس عبد الماجد” الذي طلب إعفاءه بغية الذهاب للمملكة العربية السعودية، فـ”عباس” كان صديقي وكان يسبقني بدفعتين ودرسنا بكاليفورنيا معاً وسكنا مع بعض.
{ و”نميري” كان يقيل الوزراء بالإذاعة؟
– نعم هذا كان أسلوبه، ولكن يفترض إذا أراد إقالة وزير كان يجب إبلاغه وذكر أسباب الإقالة، وأذكر أن أحد الوزراء كان معه حتى الرابعة وعند الخامسة تمت إقالته.
{ هل كان “نميري” يتمتع بشخصية قوية؟
– شخصيته قوية وله الجرأة في إصدار القرارات.
{ وتقلبه بين اليسار واليمين؟
– هذه ظروف كانت تتحكم فيها التقلبات الإقليمية والدولية.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية