وقفة مع الذات: لعام مضى 2016 وعام آتٍ 2017م (الحلقة الأولى)
الإمام الصادق المهدي
ذكرى الميلاد ليست واجباً دينياً بل من المباحات. بعض الناس يسخرون منها والعبرة بمقاصدها فإن كانت مناسبة للزهو الاجتماعي فهي بغيضة. ولكن إذا أقامها محبوك تقديراً لعطائك، وإذا صارت مناسبة لوقفة مع الذات للمحاسبة على السلبيات ومواصلة الإيجابيات تصير من أوجب الواجبات.
بمناسبة ذكرى اليوم أخاطبكم في ثمانية محاور:
المحور الشخصي:
في هذا العام اشتد بنا الضيق المالي. ليس في مجال المصاريف الخاصة فإني ولله الحمد زاهدٌ في الصرف على نفسي، ولكن على صعيد تمويل الالتزامات الأوسع. ومهما حاولنا من مشروعات بيع أصول واستثمار أصول أعاقتنا الحالة الاقتصادية العامة في البلاد، فالمشترون ينظرون للحالة فيعتذرون ويجدون البلاد مكبلة بالديون ومحاصرة اقتصادياً فيحجمون، والمستثمرون بعد أن يعبروا عن استعدادهم كذلك يحجمون. والحالة طاردة، فشبابنا يبحثون عن النزوح واللجوء والاغتراب آلافاً مؤلفة وتختل الخريطة السكانية، سكان الأرياف إلى المدن حتى ريفوها، والآخرون إلى أركان العالم الأربعة حتى صنعوا سودان المهجر بربع السكان وبأرصدة سودانية لا تقل عن (60) مليار دولار.
هذه الظاهرة وجه من وجوه العصيان المدني لأنها مرتبطة بالعهد الحالي.
أنا أبذل من الأصول الثابتة للعمل العام جزءاً كبيراً ما جعلني أقرر أن أوقف للعمل العام وما أوزع على أولادي هبة بصورة تكفل لهم معيشة متوسطة فأنا لا أرجو أن يكونوا أغنياء ولا فقراء: “حُبُّ التَّنَاهِي غَلَطْ خَيْرُ الأُمُورِ الْوَسَطْ”. كنت أحرص على مجالس دورية مع أولادي ثم حفدتي، وفي زيارات هذا العام اتضح لي أن عدداً منهم قد نضجوا ما يوجب أن أنظم معهم معسكرات راتبة.
وفي هذا العام واصلت رياضة التنس وأوقفت رياضة البولو. البولو ليست مجرد رياضة بل هي أيضاً حصة في عشق الخيل. والتنس كذلك رياضة ووصال اجتماعي. الرياضة لغير الغافلين ليست لعباً كما أوضحت في كتابي بهذا العنوان، ويزعجني جداً ما ظهر من إحصاءات في السودان لعام 2015م جاء فيها: أن (86.8%) لا يمارسون رياضة. وأن زيادة الوزن في السيدات (62%)، وفي الرجال (41.2%)، وأن النتيجة: ارتفاع نسبة الإصابة بضغط الدم إلى (29%) وبالسكري إلى (19%) والأزمة (9%). حالة مؤسفة أحاول ما استطعت التنبيه للتخلص منها.
وفي هذا العام ظهرت لي علة صحية اضطراب في الغدة اللعابية، ونصح الطبيب بجراحة، ولكن بعد ذلك اختفت بصورة لا تفسير لها إلا بالبركة ولله الحمد. بعض الناس لا يقبلون الغيبيات ولكن إذا كان في الإنسان قبس روحي فهو أهل لمعارف غيبية بالاستشعار غير الحسي، وبالرؤيا الصادقة، وقد رأيت منها عشرات ذكرتها لمن حولي.
الإنسان جزء من الطبيعة الحيوانية من باب (أُمَمٌ أَمْثَالُكُم). ولكنه مفارق لها في ثلاثة أشياء هي: العقل، وحرية الاختيار، والروحانية. هذه الأشياء ينكرها نوعان من الناس: الماديون الذين يعتبرون الإنسان جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة الحيوانية. والظاهريون الذين يعتبرون الإنسان متلقياً للمنقول. كلاهما يصغـّر الإنسان الذي كرمه ربه ونفخ فيه من روحه واستخلفه في الأرض.
الحرية أصل في الدين: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ). والعقلانية أصل في الدين: (فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ). والروحانية أصل في الدين: (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ). العقلانية الحقة، والروحانية الحقة لا يتناقضان: اجتمع العقلاني ابن سينا مع أبي سعيد بن أبي الخير الصوفي وتذاكرا ثلاثة أيام، بعدها سأل تلاميذه ابن سينا عن النتيجة، قال: ما أراه يعرفه، وسأل أبا سعيد تلاميذُه فقال: ما يعرفه أراه!
وفي هذا العام كثرت الإشارة لتقدمي في السن ومن باب الحسد يلحقونني بأندادي ولا ينسون ذكر بيت عوف بن ملحم:
إنَّ الثَّمانينَ وبُلِّغْتَها قد أحْوَجَتْ سَمعي إلى تَرْجُمانْ
نعم هنالك من يستنزفون عمرهم بأسلوب حياة مستهتر، أو من يصابون بأمراض مزمنة، ولكن من نعم الله أن غيرهم يصدون زحف الشيخوخة ما يتطلب روشتة من خمس معنويات: الإيمان، والمحبة لمن حولك، وألا تغضب، ولا تحقد، ولا تحسد. وستة حسيات: لا للخمر، ولا للدخان، ولا لزيادة الوزن، وممارسة الرياضة، والنوم ست ساعات في الليل، وتناول الإفطار بانتظام.
قلت وأقول للكافة عبارة عجوز ليست صفة لسن بل هي صفة لحالة:
إنَّمَا الشَّيْخُ مَنْ يَدِبُّ دَبِيبَا
وقد قال حكيم:
إِذَا طَالَ عُمْرُ المَرْءِ فِي غَيْرِ آفَةٍ أَفَادَتْ لَهُ الأَيَّامُ فِي كَرِّهَا عَقْلاَ
هذا العام كان من أخصب عطاءاتي فكرياً وثقافياً كتبت كتباً ومقالات ومقدمات لكتب آخرين، ما يجعلني من الشاكرين. هذا الاجتهاد يدعمه أحباب فدائيون في مكتبي أذكر منهم محمد زكي وإنعام الجمري وأحمد يوسف (قربين)، أما الحبيبة رباح فقد صارت مساعد ملاح، ساعدتني أن تصبح مناسبات ذكرى الميلاد معرضاً للمؤلفات: مؤلفاتي ومؤلفاتها عن سيرتي، بصورة غير مسبوقة في كل التراث، ليس لها مثيل. وأحمد لمدير مكتبي إبراهيم الوفاء والكفاءة الإدارية.
منذ مدة حرصت على تطويرين: تطوير الزي البلدي في اتجاه يجعله أكثر تنوعاً، وأكثر عصرية. وتطوير الزي الإفرنجي في اتجاه يمحو عنه المحاكاة لأهله.
وسأواصل. وفي هذا الصدد يزعجني جداً الاستلاب الذي لحق بمراسم الزواج عندنا، وأسوأ ما فيها بدلة السهرة وفستان الزفاف للعروسين. فاللون الأبيض عندنا للعبادة وللحزن لا للأفراح.
ومن المساوئ التي تكاد تبطل الزواج المبالغة، وينبغي أن يعتبر المسرفون في نفقات الزواج جناة تخريب اجتماعي، والحد منها، لقد جأرت بناتنا من الشكوى إذ قلن:
نحن البايرات يا جماعة
ولي الله يدينا بنرفع
شعارنا عريس متواضع
يا حي يا واهب أسمع
ما همنا حفلة وشيلة
بي حاجة قليلة بنقنع
الحالة مأزومة، بل أفرزت انهياراً أخلاقياً غير مسبوق، أبلغ دليل على فشل المشروع المسمى حضاري.. قال شاب مستهتر لآخرين: اللبن مشتت في الشوارع فلماذا أربط لي بقرة في البيت؟
أنا أحمد الله أنني أحب كثيرين، ويحبني كثيرون محبة تستفز آخرين فيهاجمونني دون سبب، عندما يسمعون أبيات من شعراء غير أنصار ولا حزب أمة مثلاً:
ونسكب فيك المحبة لهفاً سيدي فالمحبة دين
يسموك أهليَ سيدهم اسميك وحدك بالسيدين
رغم هذه المحبة والسند الشعبي الواسع فإنني افتقد الصداقة التي عهدتها مع سارا التي كانت زوجاً وصديقة وزميلة، وعمر نور الدائم وصلاح عبد السلام. وعمر إليَّ كان أكثر من أخي بل حبيبي:
وقلتُ أخي، قالوا أخٌ ذو قرابةٍ فقلتُ إنَّ الشُّكول أقارِبُ
25/12/2016م