بعد.. ومسافة
التمثيل على مسرح السياسة وحده لا يكفي ..!
مصطفى أبوالعزائم
جمعتني مناسبة اجتماعية قبل أيام قليلة، بعددٍ من الدراميِّين، من بينهم بعض الكُتّاب والمنتجين والمخرجين والممثلين، وتطرق الحديث إلى هذا العالم المثير، عالم السحر والأضواء والشهرة عالم الدراما. وكان من بين أولئك النفر الكريم المنتج والممثل النجم المعروف الأستاذ “الكندي الأمين”، ووجدت نفسي أشيد وبصدق شديد بمستوى الدراما السودانية، رغم التحديات التي تقابلها والصعوبات التي تواجهها، والتي أعرف عنها الكثير بحكم قربي من أجهزة الإعلام المختلفة، وبحكم معرفتي بالكثيرين ممن يعملون في هذا المجال، ولمعرفتي بمعاناتهم التي تجعلهم يقدمون من (فسيخ) الإمكانيات (شربات) فرح يبِلّ ريق المشاهد للتلفزيون، أو المستمع للإذاعات، أو المتفرج على العروض المسرحية، المتعطش دوماً لدراما سودانية خالصة تعبِّر عن المجتمع السوداني بمختلف مكوناته وبيئاته واختلافاته الاثنية والعرقية والجهوية، سواء كان ذلك على مستوى الحضر أو على مستوى الريف .
قال لي الأستاذ “الكندي الأمين” متسائلاً: (لماذا لا تكتب مثل هذه الآراء وتنشرها على الملأ من خلال الصحف، أو تتحدث بها من خلال البرامج المسموعة والمرئية، لأن ذلك سيؤثر دون شك على متخذي القرار؟). والرجل قال ذلك محسناً الظن بقلمِ صاحبكم، في حين أن صاحبكم لا يحسن الظن بالسياسيين ومتخذي القرار، لذلك سيظل دور الصحافة ضعيفاً في التأثير على اتخاذ القرار في السودان إلى أن يتحرر ساستنا من وهمٍ كبير يعشعش في دواخلهم بأنهم هم الأعلم والأفهم والأكثر خبرة ومعرفة ودراية في كل شؤون الحياة، لا لشيء سوى أنهم يتخذون القرار، أو لأن بيدهم القلم (الجد) قلم اتخاذ القرار.
تناول الحديث بث قناة الدراما السودانية الجديدة على القمر “عربسات”، وهي قناة غير منتظمة البث رغم الكنوز الدرامية التي تقدمها للمشاهد في ساعات بثها، مثلها في ذلك مثل قناة المنوعات السودانية التي تظهر وقتما تشاء وتختفي عندما يبحث عنها المشاهد. ومن رأي الكثيرين أن انتظام بث مثل هذه القنوات المتخصصة سيقدم خدمة كبيرة لقطاعات واسعة من الناس، سواءً كانوا من العاملين في ذلك المجال بمختلف تخصصاتهم أو من المشاهدين الذين تستهويهم مثل تلك التخصصات. وهي فرصة أيضاً لأصحاب المواهب والقدرات لعرض ما لديهم حتى من خلال برامج المسابقات أو البرامج التنافسية، مع توفر فرص كبيرة للرعاية، ومن هنا يمكن خدمة هذه القطاعات مع ضمان استمرار الإنتاج الذي يعني المواظبة والتطور في مجالات التخصص، وفي مجالات العمل الفني المرتبط بتطور الأجهزة والمعدات المستخدمة في الإنتاج الدرامي، وهي قطعاً تختلف عن غيرها مما يستخدم في الإنتاج البرامجي أو النقل المباشر أو تلك التي تستخدم داخل الاستديوهات .
بالنسبة للدراما الإذاعية، نجد أنها أثبت قدماً واكسر تطوراً عن نظيرتها التلفزيونية، وذلك لتاريخها الطويل المرتبط بنشأة الإذاعة نفسها قبل أكثر من سبعين عاماً، ولقلة تكلفة الإنتاج مقارنة بإنتاج الدراما التلفزيونية، مع العلم بأن تاريخ الدراما التلفزيونية نفسه يمتد إلى نحو أربعة عقود ونصف عندما بدأ إنتاج أول مسلسل تلفزيوني عام 1968م وقد كانت الدراما التلفزيونية قبل ذلك تبث على الهواء مباشرة، وكانت عبارة عن أعمال قصيرة (اسكتشات) من ذلك النوع الذي يستخدم كفواصل في الحفلات الغنائية على خشبة المسرح القومي، أو داخل دور السينما التي كانت تستضيف الحفلات الغنائية لكبار الفنانين آنذاك.
الحكومة الآن لا تهتم بالإنتاج الدرامي المصوَّر، ولا اهتمت به الحكومات التي سبقتها، وهناك ضعف كبير في الميزانيات المخصصة لهذا الضرب الفني عظيم الأثر والتأثير، وفي عهد الإنقاذ الأول وحتى النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، لم تحظَ الدراما التلفزيونية باهتمام الدولة ولا باهتمام مؤسساتها، بينما نشط الإنتاج المسرحي الخاص في تلك الفترة كأنما كان يغطي الفجوة التي أحدثها غياب الدراما التلفزيونية، ولكن حدث بعد ذلك قليلٌ من الاهتمام خاصة في عهد تولي الأستاذ “الطيب مصطفى” لإدارة التلفزيون – وهي أخصب الفترات طوال عهد الإنقاذ – فتم اعتماد ميزانيات لإنتاج ستة مسلسلات في العام، لكن سرعان ما تبخرت أحلام الدراميين بذهاب الأستاذ “الطيب مصطفى”، لتعلو من جديد في عهد من خلفوه نغمة التشدد والتركيز على تثبيت دعائم المشروع الحضاري، فلم يثبت المشروع ولا قدمت الحكومة ما يقوي الدراما في السودان .
القطاع الخاص يهرب من الإنتاج الدرامي لأن التكلفة عالية، والمنْفَذ واحد، فيجد المنتج أنه يخضع لابتزاز الأجهزة الحكومية التي يتم العرض من خلالها فيضطر إلى تسويق ذلك الإنتاج أو بيعه بقيمة تكلفته وفي بعض الأحيان بما هو أقل من تكلفة الإنتاج، ومعلوم أن الدراما السودانية محدودة التسويق رغم أنها عالية المشاهدة في الداخل السوداني وبعض دول الجوار الأفريقي مثل الشقيقة تشاد التي كانت شوارع عاصمتها تكاد تخلو من المارة عند عرض مسلسل تلفزيوني سوداني مثل مسلسل “دكين” أو غيره .
نختم برسالة إلى السادة المسؤولين بأن يولوا الدراما السودانية بعض الاهتمام فهي التي عن طريقها يحدث التغيير الاجتماعي، وقد انتبهت دولٌ كثيرة لهذا الآمر بدءاً من الولايات المتحدة الأمريكية مروراً بالدول الأوربية الكبرى ثم مصر التي عرف قادة ثورتها الكبرى في يوليو 1952م أهمية الدراما فأنشأوا المؤسسات والشركات والاستوديوهات الخاصة بالإنتاج السينمائي، بينما حلّت حكومتنا الموقرة مؤسسة الدولة للسينما التي أنشئت في عهد الرئيس الراحل “جعفر نميري”، والتي قامت هي نفسها على أنقاض وتاريخ إدارة التصوير السينمائي التي تأسست قبل الاستقلال. لا نريد أن نسير عكس اتجاه التقدم .. نرجع إلى الوراء بينما يسير العالم إلى الأمام.