"علي أبرسي" يكشف تاريخه لـ(المجهر) السياسي
اخترت التجارة وأنا شافع ومن أمنيات أبوي أدرس بالأزهر وأطلع (عالم)
أنا من مواليد النهود وكان حلمي امتلك (لوري) وأفتح دكاناً
نعم نحن الجلابة.. وكتبت قصيدة في حب زالنجي
انتهى زمن الجميزة والقمرة وكفتيرة الشاي ودارفور من بعدي حرقوها السياسيين
– في حياتي لم أر شخصاً واجه مولانا بموقف فيه معصية
– – لم أندم على خروجي من الاتحاديين وختميتي دهب عيار (24)
نحن الكوارتة موجودون في كل المدن السودانية
حوار – دلاى
نحن الجيل المحروم من رؤية عالم الرأسمالية من طراز السيد “طلب” والشيخ “مصطفى الأمين” و”ميرغني حسن” الذين يعرفهم آبائي وأجدادي في حدود منطقتي بالعزازي، هؤلاء الرجال جمعوا أموالهم بالمثابرة وأمام عيون الناس كل الناس، ويستطيعوا معرفة كل مليم في ثرواتهم، وبصراحة كنت أحمل صورة مختلفة لعمنا “علي أبرسي” و أخبرته أنه يبدو في خيال كثير من خلق الله وعباده، أنه تاجر بشع كلما زاد الغاز جنيهات، ضحك وأفتاني وأعطاني وصفة الصداع، كما هي محددة ودقيقة.
قابلني الرجل تاجر يعرف مقابلة الغرباء، يشبه تجار الزمن الجميل، في خطاه تسوية متوقعة وكل ملامحه مشروع تسامح سوداني، هذه طبعاً ليست ابتسامة بيوت، كما هي عند (سلمى سيد)، حينما وصفتها في لقاء سابق، هذا الوجه البشوش بسبب التجارة والصفقات الناجحة مبتسم كله بدفعة واحدة، قادني به وبفرح حقيقي لبهو صالونه وفتحنا صفحة التاريخ، والرجل يناسب الأغنيات الخالدة في دلوكة البنات قبل نصف قرن يمجدن تاجر الغرب، وهو يحكي لي عن تلك الأيام، كيف كانوا يصطادون الغزال والطيور الكبيرة يشوونها على نار الخلاء تحت قمر (14)، ودارفور بريئة من الحريق والخراب والقتل العام، لم يأت عام 2003م، ولم يترك “مناوي” طباشيرة الدروس في قرية فوراية، ولم يفكِّر “خليل” في الخلاص الكبير، كان “أبرسي” التاجر الذي أحب “زالنجي” وكتب فيها شعراً صادقاً قبل أن يتحوَّل في دفتر ثوار جدد بكونه مجرد جلابي يستهلك ثروات البلد.
× عمنا “علي” … من أين نبدأ تاريخ حياتك؟.
– – نحن أسرة تنتمي للتجارة منذ نعومة أظافرنا، وأهلنا من كورتي، وجدنا أمامنا الخلوة جنبها المدرسة، وتخرَّج فيها الطبيب والمهندس ورجل الأعمال وغيره.
– × نركز مع عمنا “أبرسي”؟.
– – نحن قبلنا في العمل التجاري، ولكن بدايتي كانت بالدراسة في معهد أم درمان، سافرت في إحدى الإجازات لأخوي الكبير بمدينة الدويم، طاب لي المقام معه وفهمت التجارة ونسيت القراية.
– × (وين الوالد)؟
– – كان زعلان جداً، وكان يرتب لي أن أكون شيئاً مهماً في مجال الدراسة.
– × المهم أنت اخترت وقررت؟
– – وتعرفت على كل السودان مشيت نيالا وزالنجي وبورتسودان، وعملنا مع الهنود في استيراد الشاي وصدَّرنا الذرة والزيوت للسعودية ولبنان، وحتى سويسرا، ودخلنا مجال الدقيق لمصانع المكرونة والشعيرية، وواجهتنا صعوبات لنقل تلك البضائع عن طريق السكة الحديد، فلجأت لإنشاء أول شركة للنقل بين بورتسودان والخرطوم.
– × كنتم أول شركة نقل؟.
– – أول عمليات نقل تجر تريلات، ودا كان في 1973م، وكانت أول شاحنة في زمن “نميري” تشاهد بتلك الطريقة، ونحن طوَّعنا العقبة واجتزناها، وكانت عملية بطولية لا يعرفها الجيل الحالي.
– × ولكن كنا دولة كيف كان حالنا قبل تريلات “أبرسي” في 73؟.
– – كنا نستورد الشاحنات من إريتريا لترحيل السكر من عسلاية، فدخلنا وغطينا كل عجز السكة الحديد، ومعنا لاحقاً شركة “النفيدي”.
– × كم عدد الشاحنات في أول تجربة لك؟.
– – بدينا بـ(14) شاحنة ثم (30) وارتفع العدد بحمد الله.
– × أنت وناس عمنا “النفيدي” احتكرتم الطريق البري؟.
– – ونعمل لكم بكفاءة عالية وبقوة.
– × تركت الدراسة؟.
– – وعندي ثلاثة من أولادي حافظين القرآن بفضل الله.
– × من أيام الأتراك وجيل بعد جيل هناك ذكرى من معركة “كورتي” ليست في صالحكم بكون الهزيمة تمت على أرضكم؟.
– – “كورتي” بلد صغيرة والمعركة دي كانت من زمن الأتراك، و”كورتي” بها نزعة تجارية لا تحب الحروب وتنزع للتنمية والتقدم.
– × أنتم إذن الكوارتة ؟.
– – نحن بطون آل “كمبال” وآل “حميدان” وآل “كرار” وآل “حسين” ناس قرآن وتجارة.
– × هل صحي كانت فاتحة السيد “علي” تصرف عند الكوارتة؟.
– – دي من حكايات ود “نفاش” أن فاتحة السيد “علي” تصرف عند السيد “عبد الرحمن”.
– × طبعاً أنتم ختمية آباء عن أجداد؟.
– – نعم، وكان أبوي يتاجر بالمحاصيل بين نيالا والأبيض والرهد، وكان يستورد الملح للولايات.
– × أنتم الكوارتة؟
– – وعمي “عمر” أول من فتح طريق بورتسودان دنقلا في 1941م، خلال شهر كامل، وكان عبارة عن اكتشاف، وكان العرب “الهواوير” دليل لفهم الجغرافيا.
– × تجار عاوزين تاريخ؟.
– – دا فعلاً إنجاز يستحق الجدارة، حيث لم تكن هناك أي وسيلة إلا البحر عبر كريمة والبصات عبر كرمة، وكانت هناك أهوال وتاريخ من المشقة للسفر في تلك الجهات.
– × موجودون من نيالا إلى بورتسودان؟.
– – نحن الكوارتة موجودون في كل المدن السودانية.
– × جئتم من قرية صغيرة وربما حدث تغيير في حياتكم، تجار أثرياء؟.
– – نحن لسع بطيبة ناس البلد وأخلاق القرية، وما زلت أتذكر بيوتنا، مكان الضيافة جنب البئر، وكنا نخدم الضيوف وكان أبوي خليفة ختمي يستقبل الأخبار الرسمية بالبرقيات.
– × أنت من مواليد كورتي؟.
– – بل، أنا من مواليد مدينة النهود، أبوي بديري وجدي أمه شايقية من قوشابي.
– × كيف كان نوع أحلامك وطموحاتك حينما خرجت للدنيا ظهر منها حظك وفرصتك؟.
– – دا كان زمن اللواري الهوستن، وكنت أحلم أمتلك (لوري) وأفتح دكاناً وامتلكت بفضل الله (30) (قندران)، وعمري لم يتجاوز الـ24 سنة.
– × عشان طلعت من المعهد العلمي؟.
– – طلعت لأنوا قمة ما كان سيصل له المرء أن يكون مدرساً، ومع عظمة المهنة لم تستهوني، خرجت وعملت بالتجارة في الجملة سكر وشاي و تزوجت وعمري 19 سنة.
– × الدويم من الذاكرة؟.
– – كانت منتعشة جداً، سوق عامر والبنطون حكاية بالشرق والغرب، وكانت مدينة جميلة ونضيفة، وكان الخليفة “حسن تاج السر” والد “سر الختم الخليفة” هو سيد الوقت هناك، وبحكم الختمية والتجارة سمح لي ومعي زوجة أخوي أن أركب سيارته الأمريكية (الناش) من أجمل العربات في السودان ويمتلكهما اثنان “محمد حسين” و”الخليفة الحسن”، سافرت بها من الدويم حتى الخرطوم ولا توجد حتى في القصر.
– × كأنها أيام الباشوات يحملون الكدوس؟.
– – يا أخينا الراجل دا خليفة أيه كدوس وسجائر.
– × أبوك كان زعلان وأنت تترك الدراسة من أجل التجارة؟.
– – أي والله، كان عاوزني أدرس في الأزهر، وقالها لي: (عشان تبقى عالم).
– × هل كنت في ذلك الوقت تفهم بعضاً من السياسة؟.
– – أبداً دا كان عمر مبكر، وكان عمري يسمح لي الإعجاب بالمباني والآيسكريم والباسطة والخدمات لدى المواطنين، وكل ما أتذكره خلوتي إلى الذكر في المسيد، وكان الشيخ رجلاً مهاباً وأبيض جداً، وكنت أرجع عند الصبح بحالة تديُّن رهيبة، انفعالات و تحولات وجدانية وترجمة.
– × كنت في نيالا أيضاً؟.
– – دا كان سنة (60) أيام “عبود” اشتغلت مع ود عمتي، كنت أعمل في المخزن أسلم البضاعة، رجعت أم درمان وصادفت الشريف “حسين الهندي” يفتح تجارة الشاي مع الهنود، كان محتكراً تجارة الشاي والبن والملح ثم جئت لبورتسودان مع عمي “عثمان عبد السلام” – رحمه الله.
– × في نيالا والرهد كنتم الجلابة … كيف كانت النظرة لكم؟.
– – ينظروا لينا زي نظرتنا نحنا للخواجات، حينما كانوا مميزين بلبسهم ونوع حياتهم.
– × هل كانت المشاعر السلبة واضحة ؟.
– – كانت تصرفات من أفراد ومحدودة جداً، وكنا كلنا بإحساس مشترك أبناء هذا البلد، نشق بجمالنا الأرياف والحلال، حلة حلة، وفريق فريق، نبيت ليالينا تحت الجميزة ونصطاد الغزلان برفرف اللوري، ونشويه تحت القمر، وكنا نصطاد دجاج الوادي ببندقية الخرطوش، وما زلت أتذكر ليلة رأس السنة في عام (62)، ونحن تحت جميزة ومعي ود عمي نشرب الشاي في ليل بهيم إلا صوت المرفعين، قلت له: إنها ليلة رأس السنة، فقال لي: يعني شنو ليلة رأس السنة، وكان الصباح يطلع علينا وناس حلة أو فريق يلقون التحيات ونرفع لهم كفتيرة الشاي.
– × يا ريت ما جات سنة 2003 ؟.
– – كانت الدنيا أمان وسلام، أرض منبسطة وناس بسيطة في عملها، ووراء سعيتها وتقريباً بدون أحلام لو استمرت الحياة بتلك الوداعة.
– × حكاية عجيبة؟.
– – كان الأهالي يبدِّلون معنا العيش باللبن، ولم نسمع أي شبكة بين عرب و زرقة، ولم نسمع بتلك التقسيمات إلا قريباً، والناس في السوق وغير السوق أهل حقيقيين، وهناك جلابة تزوَّجوا من الحلال والفرقان وصاروا جزء من ذلك النسيج بعفوية.
– × كيف تقيس المسافة نفسياً بين زالنجي وكورتي؟.
– – زالنجي عزيزة على نفسي، وحتى اللحظة لها عندي مكانة خاصة، وأتمنى أن تكون كل إجازاتي بأسرتي نحو زالنجي وليس مدينة غيرها.
– × هل عدت لها مؤخراً ربما بسبب التجارة ؟.
– – لم استطع الرجوع لها من عام (62)، ولديَّ ذكرياتي وهي من أجمل بلاد السودان، ويكيفها من الجمال وادي أزووم ووادي أريبو، وكأنك في سويسرا، وكتبت في حب زالنجي قصيدة.
– × متى تعرفت على مولانا السيد “محمد عثمان الميرغني”؟.
– – دا كان بتاريخ 1974م، أوصلني لهناك “حسن محمد حسن” – رحمة الله عليه – وبيننا صلة حميمة.
– × وقبل عشر سنوات كانت ثورة أكتوبر؟.
– – لا أحبها إطلاقاً، والغريب كان عرسي في 21 أكتوبر أو يوم 20، وصادف بكل أسف اليوم الذي لا أحبه بسبب ثورة أكتوبر في 1964م، وعلى ما أذكر حضر عقدي السيد “علي” ومن الزمن داك نشأت علاقتي مع مولانا “الميرغني”، أسافر معهم ويسألوا عني، أشرِّف مناسباتهم ويشرفون مناسباتنا، ومرة سافرت معهم إلى شيكاغو لحضور تخريج “علي” بن مولانا “محمد عثمان الميرغني” وحضَّر الآن الدكتوراة في الاقتصاد، وتزوَّج بنت خاله، وفيه كل مواصفات الزعامة.
– × نحن نعرف “جعفر الصادق” الذي دخل القصر وخرج ونعرف بالطبع “الحسن”؟.
– – نعم، السيد “علي” بن مولانا “الميرغني” غير معروف لكثيرين، وهما يدرسان في نفس الجامعة “الحسن وعلي”، وكنت قريب منهما حينما كنت مستشاراً للمرحوم “أحمد الميرغني”.
– × قريباً منهما ؟.
– – نعم، وكثيرون لا يعرفون أن مولانا “الميرغني” يقضي الليل كله في قراءة القرآن والذكر والصلاة، ولمولانا قدرة عجيبة حينما ينهض الفجر يستقبل الناس كأنه كان نائماً من الأمس.
– × هل مولانا رجل ديمقراطي؟.
– – هو مثل أبوه، وفيه ديمقراطية كاملة والسر فيهم سببه التربية.
– × هم قليلو الكلام؟
– – مولانا بالخصوص هادئ بشكل غير طبيعي، ويسمع كل الكلام، ولكنه يتعامل معه بشكل مختلف.
– × كيف يبدو زعل مولانا في مشاعر ختمي؟.
– – (دا شيء صعب طبعاً على زول ختمي)، وهو دائماً يكره التنافر وكلماته الشهيرة: أوغلوا في الأشياء برفق، فإن المنبتة لا أرضاً قطعت.. وكان لديه الجهات ست وليست أربع، وذكرنا بالجهتين فوق وتحت.
– × متى قلت للسيد مولانا “محمد عثمان الميرغني” لا، في وجهه؟.
– – في حياتي لم أر شخصاً واجه مولانا بلا أو أي موقف فيه معصية.
– × لم يتجرأ أحد برفع السبابة في وجه مولانا؟.
– – لم أر في حياتي مشهداً كهذا أمام مولانا من أي شخص كان.
– × كيف يدير مولانا حزباً سياسياً مثل الاتحادي الديمقراطي، بكل ذلك الصمت والهدوء؟.
– – دائماً يعطي اعتباراً للمستشارين والخلفاء، ولا أحد يتجاوزه، لأنه ببساطة (دا خليفة السيد علي).
– × كيف نال الخليفة “عبد المجيد” كل تلك الثقة من فؤاد مولانا ؟.
– – الخليفة “عبد المجيد” رجل مقرَّب جداً، وربما له توكيل رسمي لإدارة كل أعمالهم وشؤونهم، وطيلة حياتي معهم لم أر أي تجاوز للخليفة “عبد المجيد” ولو قيد أنملة، وكل تصرف منه يعتبر رأي مولانا بدقة متناهية.
– × (دا سر الثقة) ؟.
– – ما عندو أي قرار لوحده، ولا يتجاوز حدوده، ودائماً في خدمة مولانا و”الختمية” بإخلاص هو وأبناؤه.
– × كيف قطعت كل تلك المسافة بين الختمية والإسلاميين، وصرت مؤتمر وطني بعيداً عن مولانا “الميرغني” ؟.
– – كانت الخلافات أكثر من اللازم وتجاوز السيد “الحسن” النظم المرعية والحاضر يرى ما لا يرى الغائب، وكانوا يكتفون أن نتعجل الأمور بينما الحزب متقلص، وكل يوم ينسحب من قضايا البلد الأساسية، ويعتبر تأخر انعقاد المؤتمر العام للحزب مشكلة تنظيمية معقدة تعكس الأزمة الحقيقية داخل الحزب.
– – × كيف تحافظ على ختميتك وأنت في بلاط الإسلاميين داخل المؤتمر الوطني؟.
– – أنا ختميتي دهب عيار (24) ومحفوظة في مكان بعيد في روحي وقلبي.