معارك الفراغ
تخطئ الحكومة التقدير وتبدد طاقتها هدراً إن هي خاضت حرباً مع كائن ظرفي مجهول اسمه حرب الأسافير وتخسر الحكومة وحزبها أكثر، إن جعلت كل شغلها وجهدها في إجهاض ما يسمى بالإضراب والعصيان الذي تقوده مجموعة من الكائنات لا يمكن الوصول إليها ولا تملك على الأرض رصيداً جماهيرياً تخرج للشارع للتعبير عنها عملياً، بدلاً من الشائعات والأخبار التي يصنعها العقل الاسفيري ويصدقها العقل الاسفيري. وبعد فشل الإضراب والعصيان الأول تبدد آثاره مع منتصف نهار اليوم الأول وعودة الحياة لطبيعتها في اليوم الثاني، عاودت القوى الاسفيرية مرة أخرى خوض معركتها مع النظام بإعلان التاسع عشر من ديسمبر الجاري موعداً لإضراب جديد وعصيان آخر، وصدق الإمام “الصادق المهدي” و”الصادق” صديق بأن العصيان قد يسقط النظام في ذلك اليوم مما يتطلب تأجيل العودة لأسبوع أو أسبوعين، ربما يعود الإمام محمولاً على الأعناق ويزعم أن وجوده في المنفى هو السبب الأول لإسقاط النظام .. تلك التقديرات الحالمة هي من جعلت الإمام “الصادق” يرجئ عودته وليس صحيحاً البتة ما زعمه السيد “محمد المهدي الحسن” بأن مؤسسات الحزب هي التي أرجات عودة الإمام لأن هذه المؤسسات التي يقودها الجنرال “فضل الله برمة”، هي آخر من كان يعلم بهجرة الإمام الصادق المهدي الأخيرة .. وتغيب الأحزاب من (ثورة) الفيسبوك والواتساب مثل تغيب الحكومة في نجاح موسم الأمطار، وفي ظل غياب الأحزاب وكساحها وضعفها الذي لا يخفى على أحد أصبح قادة ركب التغيير وثورة الثورة القادمة هم الجالسون في الأرصفة والقابضون على شاشات أجهزة الهاتف يبثون أخباراً عن خروج منطقة الصحافة في تظاهرات حاشدة، ويقرأ سكان حي الصحافة عن بطولاتهم وهم في بيوتهم يتابعون مباراة ديربي الغضب بين ميلان وانتر ميلان في الدوري الايطالي وأبطال ثورة الفيسوك يمجدون دوري طلاب الأهلية الذين سيطروا على شوارع العرضة والمهندسين وأغلقت السلطات كل الشوارع في المنطقة، بينما المواطنون يتزاحمون على مطعم شهير يقدم الأقاشي بشارع الأربعين وطالبات الأحفاد ينتظرن مواصلات ليبيا ومعتمد أم درمان الدكتور “مجدي عبد العزيز” يدير مجموعة واتساب ويرتدي قميصاً (كاروهات) ويشرب القهوة مع (عوضية سمك) حتى حلول التاسع من ديسمبر موعد الإضراب الموعود. على الحكومة أن لا تشغل نفسها بسراب الواتساب ومعارك (الكيبورتات) ولا تسجن قدراتها في نجاح أو فشل الإضراب، ومهمة الحكومة تقديم الخدمات وحفظ الأمن واستقرار العام الدراسي وحماية الطلاب بذكاء من فيروسات الواتساب والتصرف بهدوء دون ضوضاء أو إثارة غبار في فصل الشتاء من الأخطاء القادمة، أن تشغل الحكومة نفسها بعدو غير موجود والخطأ الأكبر أن يخوض الإعلام الرسمي من إذاعة وتلفزيون في معركة مع عدو لا وجود له. الشائعات تقتلها الحقائق والأكاذيب تبددها حرية التعبير من يختلق وجود مظاهرة سترتد عليه كذبته ويفقد مصداقيته وهذا ما حدث في الإضراب السابق الذي انتهى بالفشل، لأن دعاته خرجوا من الصباح الباكر إلى الشوارع لإثبات نجاح الإضراب بينما الشمس لم تشرق بعد، وأخطأت بعض الوسائط الإعلامية الرسمية حينما ذهبت لإثبات فشل ما هو فاشل أصلاً وبذلك جعلت للإضراب والاعتصام زخماً لا يستحقه. إذا كانت الخرطوم هي العاصمة فإن نصف سكانها لم تصلهم دعوات العصيان أصلاً والنصف الآخر تشغله متاعب الحياة عن متابعة ثورات الواتساب والذين يقودون (الثورة) من مهاجرهم في الولايات المتحدة وأوربا والخليج آمنين مطمئنين مترفين يمنون النفس بخروج الشارع استجابة لدعواتهم وأمانيهم.