حوارات

(المجهر) تقلب أوراق العمر مع البروفيسور "عبد الله أحمد عبد الله" رئيس مفوضية الانتخابات 2

بروفيسور “عبد الله أحمد عبد الله” يعدّ من الخبراء القلائل في المجال الزراعي، وهو من أبكار المزارعين في السودان، يمتاز بعمق التفكير ورجاحة العقل وسعة الأفق، هادئ الطباع، بسيط في حياته رغم تقلده العديد من المناصب إبان الحكم المايوي، فقد كان مديراً لجامعة الخرطوم، ووزيراً للزراعة، وحاكماً للإقليم الشمالي مكلفاً ومعيناً ومنتخباً، لم تشغله السياسة كثيراً بقدر ما كان يهتم بعمله الأكاديمي في جامعة الخرطوم، كما شغل منصب نائب رئيس المفوضية القومية للانتخابات، ثم حل رئيساً لها بعد انفصال الجنوب وذهاب مولانا “أبيل ألير” إلى الجنوب.
حاولنا أن نقلب معه أوراق العمر منذ المولد والنشـأة والدراسة وعلاقته بالرئيس “نميري”.. كيف اختير وزيراً للزراعة؟ ثم كيف تم اختياره حاكماً للإقليم الشمالي؟ وكيف أصبح مديراً لجامعة الخرطوم؟.. نترك القارئ ليطلع على الجزء الأول من هذا الحوار الذي امتد لأكثر من ساعتين ونصف الساعة:
{ بعد أن عدت من بورتسودان وفتحت الجامعة.. أي الكليات اخترت؟
– اخترت كلية الزراعة رغم أنني حاصل على ( قريد ون).
{ ولماذا الزراعة دون الطب؟
– لأن الزراعة كانت رغبتي الأولى، فأمضيت سنتين بكلية العلوم ومن ثم انتقلنا إلى كلية الزراعة بشمبات.
{ هل تذكر زملاءك بشمبات؟
– كنا اثني عشر طالباً بكلية الزراعة بشمبات وهم “علي الخضر كمبال” و”إبراهيم عايد” و”سعد عبادي” وبروفيسور “حسن أحمد هامش” و”شريف الدسوقي” و”محمد أحمد خليفة” و”توفيق هاشم” والمرحوم “عكاشة”، وفي نهاية الجامعة تخرجنا عشرة من الاثني عشر طالباً.
{ وإلى أين اتجهت بعد أن أكملت الجامعة؟
– الجامعة وقتها كانت تعمل على سودنة هيئة التدريس، والكلية كان عدد الأساتذة السودانيين فيها ثلاثة ” أحمد عبد الله” وبروفيسور “بيومي” و”كمال عقباوي”، أما بقية الأساتذة، فكانوا انجليز وهنوداً ومصريين، لذلك رأى “النذير دفع الله” أنه لا بد من بناء هيئة التدريس، ورأى أن يتم اختيار اثنين أو ثلاثة من الخريجين المميزين، ويتم تعيينهم من قبل الجامعة ومن ثم ابتعاثهم إلى الخارج للحصول على درجتي (الماجستير والدكتوراه) ويعودان إلى الجامعة ضمن طاقم التدريس، ووقتها عميد كلية الزراعة كان “محمد عبد الله نور”، واختارنا نحن ثلاثة خريجين للذهاب في بعثة دراسية لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه من أمريكا بدلاً عن انجلترا التي كانت دائماً تبعث الجامعة الأساتذة لها.
{ وما هو السبب؟
– السبب أن العميد رأى أن يكون هناك تنوع في دراسات المبتعثين، ولذلك اختار أمريكا، ولكن لم يعرف أي جامعة في أمريكا يتم ابتعاثنا لها، إلى أن جاء بالصدفة أمريكي من جنوب إفريقيا زائراً الجامعة، فسأل إن كانت هنالك كلية للزراعة، وعندما قابل العميد اكتشف العميد أنه “مستر جونسون” عميد كلية الزراعة بـ(كلفورنيا)، ففاتحه العميد بموضوع بعثة ثلاثة خريجين إلى أمريكا، فسأل إن كنا موجودين، فأرسل لنا العميد فحضرت أنا وفي الحال أجرى الأمريكي لي معاينة، ثم سأل العميد عن بقية الآخرين فقال هل هم بنفس مستوى هذا الخريج، فقال له العميد نعم، فقال له أنا اخترت هذا الخريج بـ(كلفورنيا)، وعندما أعود إلى أمريكا سوف أجد فرص للآخرين، ولكن بشرط أن يجتاز (سمسترين). وبالفعل بعد أن وصل أمريكا اتصل بعميد الكلية بوجود فرصة لـ “علي الخضر كمبال” في لبراسكا ولـ”عبادي” بلوس انجلوس.
{ وكيف سافرت إلى أمريكا؟
– الجامعة وقتها بعد أن عينتنا منحتنا (ماهية)، وأول شيء عملته فصّلت بدلة عند ترزي يدعى “سلامة” وفتحت حساباً بـ (بنك باركليز) وأذكر أن موظف البنك سألني عندما أردت تحويل مصاريف للسفر، كم تريد أن تحول؟ قلت له: خمسة جنيهات، وكان كل ما في حسابي سبعة جنيهات، فمنحني أربعة عشرة دولاراً كان ذلك في عام 1958م. وغادرنا الخرطوم في طريقنا إلى أمريكا، وأول محطة نزلنا فيها كانت (سبها) ثم (طرابلس) ثم (مالطا) ومنها إلى (نيس) بفرنسا، ثم لندن، وفيها التقينا بالملحق الثقافي، ثم غادرنا إلى واشنطن وفي المطار التقينا بموظف السفارة ويدعى “محمد عبد الماجد أحمد”، ومن الطرائف أن محمداً هذا كان يشبه الباكستانيين، وفي المطار كان يمشي ويأتي، فقلت لسعد هذا الشخص يبحث عنا، فقال لي هذا باكستاني، قلت له عندما يعود مرة أخرى سوف أتحدث باللغة العربية بصوت عالٍ وأنت حاول الإجابة، وفعلاً عندما سمعنا قال لنا: أنتما فلان وفلان، قلنا له: نعم، فاصطحبنا إلى أحد الفنادق، وفي اليوم الثاني ذهبنا إلى السفارة ومنحنا مبلغ مائتين دولار، ومن ثم التقينا بالسفير وسألنا من أي المناطق أنتم؟ قلت له من الشمالية.. منطقة “مقرات”.. رباطابي، فقال لنا: عاوز أوصيكم انتم ماشين كلفورنيا وكلفورنيا مغرية ما عاوز أسمع واحد منكم قالوا أتزوج ليه أمريكية فاهمين.
{ ماذا قلت له؟
– قلت له: سيدي السفير أنا خاطب بت عمي، وبعد أن أنتهي من الماجستير سوف أرجع وأتزوجها، وفعلاً بعد عام حصلت على درجة الماجستير.
{ هل اصطدمت بأي موقف؟
– أذكر بعد وصولنا ودخولنا الجامعة قابلت سودانياً يدعى “أحمد بابكر عدلان” من أولاد الأبيض.. جاء للدراسة على نفقته الخاصة، وعندما سمع بي حاول أن يحجز لي معه في الشقة، ولكن المشرفة رفضت قبولي، فسألتها إن كان لوني السبب لكنها لم تجب، والعنصرية وقتها كانت مازالت موجودة، فاشتكيتها لإدارة الجامعة وتم فصلها في الحال.
{ ما موضوع رسالتك في الماجستير؟
– الموضوع كان عن فسيولوجيا البنات.
{ وكيف كان زواجك؟
– عدت إلى السودان بعد أن حصلت على درجة الماجستير، وشرعت في اكمال الزواج، وكان تقليدياً، وأحيى الحفل الفنان “أحمد عمر الرباطابي”، وأذكر أنني التقيته في القطار، فسألته: وين ماشي؟ قال لي: سمعت بعرسك وأنا ماشي ليك، فالعرس كان سبعة أيام.
{ وبعد العرس؟
– اصطحبت زوجتي وعدت إلى كلفورنيا لإكمال درجة الدكتوراه، وأذكر أن عميد الدراسات العليا بالجامعة وكان يعرفني فاتصل بالملحق الثقافي “أحمد حامد الفكي” يسألني عن ورق قدم للجامعة بشأن ثلاثة طلاب آخرين للدراسة بالجامعة إن كان قد وصل، فسألت العميد فقال لي هل هؤلاء الطلبة تخرجوا في نفس الجامعة التي تخرجت فيها، فقلت له: نعم، فاتصل بالسكرتيرة فأكدت وجود الأوراق وفي نفس اللحظة وقع على قبولهم، وطلب مني إخبار الملحق الثقافي في السودان من تلفونه الخاص.
{ هل في نفس التخصص السابق في الماجستير حصلت على الدكتوراه؟
– نعم، فالعنوان كان في فسيولوجيا النبات.
{ هل عدت للسودان فوراً؟
– لقد أكملت درجة الدكتوراه قبل شهرين من الفترة، ولذلك عدت فوراً إلى السودان والتحقت بكلية الزراعة وأصبحت أستاذاً بالكلية ومنحت سلفية للعفش والسيارة وسكنت بشمبات والوضع بالنسبة لي كان مريحاً. فاستمررت أستاذاً ثم تمت ترقيتي إلى محاضر، ثم بروفيسور، ولكن الوضع لم يستمر كما ينبغي.
{ كيف؟
– حدثت بعض المشاكل بالجامعة، والمدير لم يكن راضياً عني وعن بقية الأساتذة.
{ والسبب؟
– السبب إنه تم فصل عدد من الأساتذة أبان الحكم المايوي والحال لم يعجبنا فاعترضنا على ذلك، وهذا لم يعجب المدير.
{ وماذا فعلت؟
– عندما كنت في كلفورنيا كان لي زميل دراسة من ليبيا ووصل في الكلية بليبيا إلى نائب العميد، وعندما برزت مشكلتي مع العميد أرسلت له خطاباً أكدت له رغبتي بالعمل معه بالجامعة، والخطاب شخصي، ولم يصدق، فأرسل خطاباً لإدارة الجامعة يطلب إعارتي لكلية الزراعة بليبيا، ووجدها مدير الجامعة فرصة للتخلص مني، فوافق على الفور.. وأذكر أن الزميل “عقباوي” زعل من ذلك، وقال لي لماذا لم تخطرنا، فقلت له: الخطاب شخصي، ولم أكن أتوقع أن ترسل إدارة الجامعة بليبيا للعميد، ولكن لم أتوقع أن يوافق المدير بهذه السرعة، وقلت له: أنا تركت الذهاب إلى ليبيا فأخبر المدير بذلك، قال لي: لكن المدير أرسل لي طلب الموافقة، قلت له: خلاص أنا رافض واخبر المدير بذلك، فقال لي: لن استطيع، قلت له: اتركني أنا سوف أخبره. ووقتها كنت قد رتبت أموري كلها للسفر وحديثي مع “عقباوي” كان نوعاً من المزاح، فسافرت إلى ليبيا والتحقت بكلية الزراعة ببنغازي.
{ كم سنة أمضيتها بليبيا؟
– أمضيت حوالي عام ونصف العام، وجرى تعديل في جامعة الخرطوم، فذهب المدير وحل محله الدكتور “مصطفى حسن” مديراً لجامعة الخرطوم، فأرسل لي برقية يطلب عودتي عميداً للطلاب بالجامعة.
{ وهل عدت مباشرة؟
– أبداً، رددت عليه وقلت له لدي عمل مع (الفاو)، وهذا العمل فيه فائدة لي، وسوف أعود منه مباشرة فوافق.
{ هل العمل كان بليبيا؟
– العمل كان بقطر مع الفاو، وعملت لمدة ستة أشهر بقطر وعدت بعدها إلى السودان، وتوليت عمادة الطلاب بجامعة الخرطوم.
{ وأنت بالجامعة.. ما هي الأحداث التي شهدتها؟
– وقتها وقعت أحداث شعبان، وكونت لجنة لتطوير جامعة الخرطوم برئاسة “الكارب” والبروفيسور “عبد الله الطيب” وشخصي، وأثناء ذلك تم تعيين بروفيسور “عبد الله الطيب” مديراً للجامعة وذهب “مصطفى حسن”.. أما نحن العمداء الذين عينهم “مصطفى حسن” ففضلنا أن نتقدم باستقالاتنا لإتاحة الفرصة للمدير “عبد الله الطيب” لاختيار العمداء، ولكن بروفيسور “عبد الله الطيب” طلب مني الانتظار لأفتتح معه الجامعة بعد أحداث شعبان وجاء بعد ذلك و(رفدنا) نحن كعمداء.
{ وأين ذهبت؟
– عدت لكلية الزراعة وأصبحت بروفيسور، وتولى “منصور خالد” منصب وزير التربية، فكون لجنة لهيكلة التعليم العالي، وبعد إعادة الهيكلة تم إنشاء جامعة الجزيرة وجامعة جوبا، وتم ترفيع كلية أم درمان الإسلامية إلى جامعة والمعهد الفني إلى كلية تقنية، وتم تعيين مديرين للجامعات، فعين بروفيسور “عبد الله الطيب” مديراً لجامعة الخرطوم وعُينت مديراً لجامعة الجزيرة، و”محمد عبد الغفار” إلى الكلية التقنية، وعين “كامل الباقر” مديراً للجامعة الإسلامية، ولم تمضِ فترة حتى اختلف بروفيسور “عبد الله الطيب” مع “جعفر بخيت” الذي كان يشغل منصب رئيس مجلس إدارة جامعة الخرطوم.
{ وفيم كان اختلافهما؟
– أعتقد الاختلاف كان حول تعيين العمداء.
{ وماذا فعل البروفيسور “عبد الله الطيب”؟
– تم الاحتكام إلى الرئيس نميري، ونميري انتصر لـ “جعفر بخيت” وخيَّر بروفيسور “عبد الله الطيب” بين عمادة جامعة الجزيرة وجامعة جوبا، فاختار “عبد الله” جامعة جوبا، لكن “نميري” رأى أن يتولى “العبيد” جامعة الجزيرة و”عبد الله الطيب” جامعة جوبا، وتم تعييني مديراً لجامعة الخرطوم.
{ كم الفترة التي أمضيتها مديراً لجامعة الخرطوم؟
– ما يقارب السنتين من 1975 -1977م.
{ وأنت مدير لجامعة الخرطوم.. هل كان النظام يتدخل في الجامعة؟
– خلال فترة تولي إدارة جامعة الخرطوم لا أحد كان يتدخل في شؤونها الداخلية لا الأمن ولا التعليم العالي، وأذكر أن الجامعة كانت هناك علاقة بيننا والتعليم في مصر، ففي كل عام كان يتم قبول عشرين طالباً بكلية الطب خاصة الطلبة الذين لم يتمكنوا من الالتحاق بكليات الطب في مصر، فيأتي الطالب ويمضي عاماً بكلية الطب، فإذا نجح يعود إلى مصر لإكمال دراسته. أذكر أنه بعد أن تم قبول الطلبة المحددين اتصل بي “محيي الدين صابر” وكان وزير التربية، وطلب مني قبول طالبين أبواهما وزيران مصريان، ولكن قلت له: لقد تم اختيار الطلبة ولا توجد فرصة أخرى، فاحتج على كلامي واشتكاني لـ”نميري” وقتها، وعندما فعل ذلك كان “عبد الرحمن عبد الله” مدير ديوان شؤون الخدمة جالساً مع “نميري”، وفي اليوم التالي أخبرني وقال لي (مالك مع محيي الدين صابر) قلت له: اشتكاني لـ”نميري”..
{ وماذا قال له نميري؟
– “نميري” قال لـ”محيي الدين صابر”: (إنت ما عارف ناس الجامعة دي طريقتهم)؟
{ وإذا قال لك نميري اقبل الطلبة.. ماذا كنت ستفعل؟
– أنا عارف “نميري” وطريقته.. فلن يقول لي.
{ وكيف أصبحت وزيراً للزراعة؟
– في اجتماع لاتحاد الجامعات العالمي الذي انعقد بالإسكندرية، شاركت فيه ومعي “النذير دفع الله”، ونحن في الاجتماعات جاءني خبر عن بعض المشاكل في الجامعة، فطلبت من “النذير” مواصلة المشاركة في الاجتماع وعدت إلى السودان، وفي المطار وجدت “علي فضل” ولم تكن العادة أن يستقبلني مسؤول بالمطار، سألته عن سر ذلك فقال لي: أنا رسول من الرئيس جعفر نميري – (علي فضل ونميري كانا زملاء دراسة بحنتوب وأصحاب) – وقال لي: لقد كلفني بمقابلتك بالمطار قبل أن تصل إلى بيتك، وقال لي (قول ليهو بكره في تعديل وزاري، وأنا اخترتك وزيراً للزراعة، وأنا باقي عليك لمساعدتي في السياسات الزراعية الجديدة).
{ ماذا فعلت؟
– قلت له: طالما أن العمل قومي، فأنا ما عندي مانع، وذهبت وأخبرت زوجتي وشقيقي.
{ هل كانوا راضين؟
– أبداً، ولكني أقنعتهما.
{ هل شعرت بالفرحة لأنك ستكون وزيراً؟
– بالعكس لم يغمرني إحساس بالفرح بقدر ما شعرت بعظم المسؤولية، وفرحتي كانت في التدريس.
{ وكيف قابلت نميري؟
– ذهبت لنميري وشكرته على ثقته فيَّ، ولكن قلت له (أنا ما كنت عاوز أدخل في المجال السياسي، أحبذ العمل الأكاديمي ولكن طالما دي رغبتك وأنت رئيس الجمهورية ما عندي مانع، ولكن بشرط أن ترفدني بعد أربع سنوات وإن رأيت فيَّ أقل من ذلك كما تعمل مع وزرائك، فارفدني).
{ وماذا قال لك نميري؟
قال لي: بعدها حتمشي وين، قلت له سوف أعود إلى الجامعة.. فضحك وقال لي: هذا وعد.
{ وهل تم رفدك؟
– استمررت لمدة ثلاث سنوات وأنا وزير للزراعة، وفي أحد الأيام وأنا ألملم أوراقي ماشي البيت، اتصل التلفون السري فرفعت السماعة وقال لي: أنا نميري، أنت وين؟ قلت له: في المكتب وبلملم أوراقي ماشي البيت، قال لي: ما تمشي البيت تعال لي في قاعة الصداقة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية