بعد.. ومسافة
النواقص الذاتية
انتخبتُ اليوم مقالاً قديماً للدكتور “منصور خالد”، وهو علمٌ في دنيا الفكر والسياسة والثقافة، لا يحتاج إلى تعريف مني أو من غيري ، ورأيت أن أشرك القارئ الكريم في قراءته، وقد رأيت أن في ذلك فائدة كبيرة، وكأنما الكاتب يكتب الآن وينقل واقعاً نعيشه وسوف يعيشه أبناؤنا من بعدنا.. ولك الحكم في هذا الذي تقرأ.
“النواقص الذاتية”
د. منصور خالد
البلاء الأعظم- إن كانت هناك بلوى أعظم مما سبق ذكره- فهي النواقص الذاتية ومنها: نكوص جيل الآباء وجيلنا الذي لحق به عن الاعتراف بكل الأخطاء التي ارتكب وارتكبنا وقادت السودان إلى تهلكة، رغم أن الاعتراف بالخطأ هو أول الطريق لمعالجته.
تناسل أجيال من المعلقين والمؤرخين الهواة المفتونين بالماضي، وهو افتتان مشبوه. فلو فتشت في قلوب المتظاهرين بالحنين إلى الماضي الذي يسمونه “الزمن الجميل” لوجدتهم قد لهجوا بالثناء على كل العهود التي أطلت على السودان بعد ذلك “الزمن الجميل”. هؤلاء يضفون على بعض رجالات الماضي ما هم ليسوا أحفياء به من تكريم، وينعتون كل خيبات أولئك بـ”الإنجازات”، وينسبون لهم صموداً مزعوماً أمام التحديات، وما التحديات المزعومة إلا أداء الواجب المفروض عليهم.
تضخيم الذات للحد الذي قاد إلى طموح غير مشروع ثم إلى خيلاء فكرية، تلك الخيلاء جعلت أغلب هؤلاء، لاسيما العقائديين منهم؛ يتظنى عن يقين باطل بأنه مالك الحقيقـة الأوحد.
الغيرة الجيلية وتلك عاهة ليست بجديدة، فأول من فطن لها في نهايات الحرب العالمية الثانية مؤرخنا العظيم “مكي شبيكة” وعبر عن ذلك في وثيقة وزعها على أعضاء المؤتمر بوصفه سكرتيراً لمؤتمر الخريجين. قال عالمنا المؤرخ “أرى اليوم بينكم تباغضاً شخصياً وتحاسداً لا أدري له سبباً مما يمنعكم من التوجه إلى أداء واجباتكم وما واجباتكم إلا التعاضد من أجل الوطن”.
تفشي تلك الظاهرة في جيل آباء الاستقلال، خاصة بين الموظفين وهم الفئة التي جاءت من داخلها الغالبية العظمى من المشتغلين بالسياسة، مثال ذلك ادعاء كل من فاته الحظ في الترقي إلى الوظائف العليا أن ترقي الآخر كان بسبب رضا المستعمر عنه وكأنه يعلي من قدر نفسه بالإيهام بأن عدم ترقيه يعود إلى أنه وطني شريف لا يحظى بدعم المستعمر.
فقدان التسامح الذي لا يميط اللثام عن الجهل بماهية الديمقراطية فحسب، بل يكشف أيضاً عن جهل مريع بمقوماتها حتى من جانب أكثر الناس ترداداً لهذه الكلمة الطنانة (buzzword). فالديمقراطية تبيح للناس الخلاف فيما بينهم تاركة لهم مساحة يتحاورون فيها ثم يتفقون أو يختلفون، ولكنهم لا يتجادلون في المسلمات أو يشتجرون حول القيم الإنسانية المشتركة، أو تحدثهم نفوسهم بأن رأيهم هو القول الفصل.
كراهية الآخر في السودان، خاصة بين نخبة لم تقف فقط عند الانفعالات العاطفية العابرة، بل صارت سلوكاً. مثل هذا السلوك اعتبرته المسيحية خطيئة، ففي إنجيل (متى) “سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. وأنا أقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات لأن شمسه تشرق على الأشرار والصالحين”.
شيوع البغض الشخصي للآخر وتلك الِخلة، من ناحية، هي ظاهرة مرضية، ومن ناحية أخرى، عاهة خلقية. فمن الناحية المرضية اعتبر “سيقموند فرويد” كراهية الشخص للآخر تعبيراً عن رغبة دفينة في تدمير الآخر باعتباره مصدر تعاسة له. كتاب ” الغرائز وتقلباتها” (Instincts and Their Vicissitudes).
التفاخر بالوطنية وهو أمر مشروع في ساحات النصر كما فعل صديقنا الحبيب “محمد المكي إبراهيم”:
من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنىً أن يعيش وينتصر
من غيرنا ليُقرر التاريخ والقيم الجديدةَ والسِير
من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياةِ القادمة
جيل العطاءِ المستجيش ضراوةً ومصادمة
المستميتُ على المبادئ مؤمنا
المشرئبُ إلى النجوم لينتقي صدر السماءِ لشعبنا
جيلي أنا…..
بيد أن في التفاخر الكاذب- أي التفاخر بغير حق- تشويهاً للتاريخ مثل قول الشاعر:
كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية
خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية
نعم هؤلاء الأسود خاضوا اللهيب بجسارة، كما قال الشاعر في صدر البيت إلا أنهـم لم “يشتتوا كتل الغزاة الباغية” كما جاء في عجز البيت.
من التفاخر أيضاً ما يشين السوداني أكثر مما يزينه، وللصحافة دور كبير في تعميق هذا الاستفخار والتباهي الكاذب. خذ مثلاً قصة الراعي السوداني الذي عثر على مال في السعودية فرده لصاحبه وهذا عمل حسن يستحق الإشارة إليه في إحدى الصفحات الداخلية بالصحيفة، ولكن في الإسراف في الحديث عنه على مدى أيام ضير كبير، خاصة عندما يصور الأمر كظاهرة لا نظير لها في العالم. ألا يدرك أولئك المعلقون الذين تباهوا بذلك الحدث أن في كل محطة للسكك الحديدية أو مكتب للشرطة، في أغلب دول العالم، مواقع تسمى (Lost and Found) تودع فيها المفقودات التي يعثر عليها صدفة أحد مواطني تلك الدول. وهل يدرك المعلق السوداني أن المواطن الأجنبي عندما يعثر صدفة على ملك لغيره لا يستأثر بما عثر عليه لنفسه وإنما يرده لأهله التزاماً بقانون أو عرف أرضي لا بموجب نهي سماوي. ثم ألا يدرك المعلق أن عدم الأمانة عند المسلم من المعاصي المهلكات بل هو آية من آيات النفاق عن المسلم، لأن المسلم المنافق بنص الحديث هو من (إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ). لا شك لديّ في أن الذين تناولوا قضية الراعي السوداني بالسعودية لم يتناولوها كموضوع جدير بأن يروى كخبر وإنما كحدث بلا نظير. ولئن صح ذلك التقييم فما رواة الأخبار إلا هاربون إلى الإمام من واقعنا المائل. أليس الأجدر، إذن، بالذين أوغلوا في المباهاة بأمانة راعي الضأن السوداني في السعودية تدبيج المقالات عن “الرعاة” الكبار الذين آلت إليهم حقوق الناس كي يدبرونها ويصونونها “فما رعوها حق رعايتها” مما ينأى بهم عن الذين جاء عنهم في التنزيل (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ).. (8 -المؤمنون).
تحول التفاخر المشروع بين السياسيين إلى تضخم للذات تفيّلت معه حتى القواقع اللا فقارية. اللا فقاريات في علم الأحياء هي الكائنات التي تفتقد الفقار أي السلسلة العظمية في ظهر الكائن والتي تمتد من الرأس حتى العصعص مما يمكن الكائن من الوقوف والحركة.
تَضاعُف تفيّل اللا فقاريات عندما أصبح الانتماء العقدي لحزب أو جماعة جواز مرور لكل موقع مهني عالٍ، كان ذلك في الإدارات الحكومية أو الجامعات أو المؤسسات المالية والاقتصادية. ولنعترف بأن تلك الظاهرة بدأت بصورة محدودة في أكتوبر (1964) تحت اسم التطهير، وتطورت في مايو بدعوى عدم مواكبة الثورة كما حدث في تطهيرات الجامعة والقضاء في مطلع نظام مايو، ثم بلغت حدها الأقصى بحلول نظام الإنقاذ تحت راية التمكين.
الإخلال بقواعد الحكم السليم في كل هذه الحالات لم يصدر من السياسيين وحدهم، بل أيضاً من المتطلعين لتلك المواقع من المهنيين والذين كان من المبتغى أن يكونوا أول المدركين لأن العالم الأكاديمي لا يصبح عالماً بنور يقذفه الله في القلب كحال المتصوفة وإنما نتيجة لدراسات وبحوث وخبرات متراكمة. تماماً كما أن الدبلوماسي لا يكون دبلوماسياً ناجحاً في دبلوماسيته، والطبيب بريعاً في طبه، والزراعي متقناً لزراعته، لانتمائه لتنظيم سياسي أو تظاهره بمثل ذلك الانتماء وإنما لقدراته الذاتية في مجال عمله.
اختلال معايير التوظيف أتاح لمبخوسي الحظوظ من غير القادرين أن يتخذوا شعاراً لهم “الفات الحدود واسوه”، وعندما تصبح الحدود الدنيا هي القاسم المشترك لاختيار الرجال في أية أمة ولأي موقع فليصلِ لأجل تلك الأمة أبناؤها وبناتها.
كل هذه العوامل تآزرت لتجعل من السودان أمة مطبوعة على الفشل طالما أصبحت قيادتها مطبوعة عليه. وعندما يقع الفشل مرة أولى قد يكـون أمراً عَرَضياً (accidental)؛ وعندما يتكرر مرة ثانية قد يكون مصادفة (co-incidental)؛ ولكـن عندما يتكرر كر الليل والنهار يصبح ميلاً وجنوحـاً نحو الفشـل (tendency to failure).
هذه هي العوامل التي أكسبت نخبتنا السياسية قدرة فائقة على تحويل كبريات الأماني إلى ما هو أدنى قيمة من التـُفاف عندما واتتها الظروف إلى التمكن من السلطة. تلك هي الحالة التي تستلزم وضع المريض في أريكة الطبيب النفساني، لا سيما بعد أن وضح لكل ذي عينين أن أي فشل جديد لن يقود فقـط إلى فشل أكبر، بل إلى ما هو أدهى وأمر. فإن وضعنا نصب أعيننا تجربة انفصـال الجنوب واستعـار الحروب في الغرب والوسط لأدركنا أن تراكـم الفشل سيقود حتماً إلى واحد من شيئيـن: الأول هو الحسـاسية من النجاح (allergy to success)، والثاني هو ذوبـان الدولة (meltdown of the state) كلا الداءين سيسيران بنا لا محالة في طريق طُراد نحو الهاوية.