بعد.. ومسافة
السودان.. هل يبقى أم يتفكك!؟
مصطفى أبو العزائم
للمؤرخ والمفكر البريطاني “أرنولد توينبي” 1889 – 1975م، نظرية جريئة في مجال الدراسات المرتبطة بنشوء وانهيار الحضارات، وقد ظل يبحث عن الحوافز الخفية التي دفعت شعوباً بدائية إلى الازدهار الحضاري، وأخرى انحدرت إلى التقهقر والعقم، وقد ظل هناك سؤال محير لكل المؤرخين ودارسي الحضارات، حول ماهية العوامل الأساسية التي صنعت تلك الحضارات الكبيرة، وهل كان ذلك بمحض الصدفة أم بفضل العناية الإلهية، أم لامتياز عنصر عرقي دون بقية العناصر المكونة للأمة، وهل للظروف الجغرافية علاقة بذلك، أم أن الثورة الاقتصادية هي الشرارة الأولى التي تحفز الهمم (؟)
أما الفيلسوف والمؤرخ والكاتب الأمريكي الأشهر “وول ديورانت” 1885 – 1981م، فقد تفرغ وزوجته “آييل ديورانت” التي كانت تصغره بثلاثة عشر عاماً، تفرغاً لنحو أربعين عاماً لتأليف (قصة الحضارة) في أحد عشر جزءاً الذي ترجم إلى كل اللغات الحية.. بما فيها اللغة العربية بإشراف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة لجامعة الدول العربية، وقد صدرت النسخة العربية المترجمة في اثنين وأربعين مجلداً، و(قصة الحضارة) عبارة عن موسوعة في الفلسفة والتاريخ تعكس تحليل مؤلفها لقيام الحضارات وزوالها، ويحمد له أنه أنصف الحضارة العربية الإسلامية لالتزامه بالموضوعية والمنهج العلمي والالتزام الأخلاقي أو ما يمكن أن نسميه بالضمير الأكاديمي، إذ عكس أثر الحضارة العربية والإسلامية على الحضارات الإنسانية.
الآن ظهرت دراسات تؤكد على أن أرض السودان كانت هي مهد البشرية الأول، بل ذهب البعض إلى اعتبار أن أرض النيلين كانت هي المقصودة في رحلة سيدنا “موسى” عليه السلام، وظهرت باكراً نظريات تؤكد على أن إنسان سنجة هو أقدم إنسان وجدت آثاره على الأرض، أو هكذا كنا ندرس في المرحلتين الوسطى والثانوية، ثم ظهرت الحضارات القديمة المروية، والكوشية، ونشأت ممالك سبأ وعلوة والمقرة، ولا زالت آثار هذه الحضارات قائمة إلى يومنا هذا تشهد على ما كان عليه حال أهل السودان في السابق، وهي تشهد للأسف الشديد ما آل إليه حالنا، من تفكك ونزاعات وحروب مع عدم القدرة على احتمال الآخر.
يمكننا القول باختصار شديد إن الحضارة هي محاولات الجنس البشري على الأرض لإخضاع الطبيعة أو السيطرة عليها وتنظيم تلك السيطرة لصالح مجتمع ما قامت فيه تلك المحاولات.
إذن يكون سؤالنا هو لماذا لم نتقدم أو نتوحد رغم كل هذا الثراء التاريخي والحضاري (؟) وفي تقدير خاص نرى أن مركزية السلطة واتخاذ القرار هي ما يعول عليه كثيراً في تثبيت قواعد الحضارة، لذلك نجد أن الحضارات الإنسانية القديمة كلها نشأت تحت ظل سلطة مركزية مثل ما حدث في مصر القديمة أو الصين أو الهند أو بلاد فارس أو حتى في روما وأثينا، حيث كان الملك أو الحاكم أو السلطان هو السلطة الأعلى التي تُخضع الأمصار والبشر، ونادراً ما تحدث تفلتات ضد الأوامر العليا، وهو ما نطلق عليه حالياً هيبة الدولة، والتي غالباً ما يضعفها الفيدرالية أو الحكم الولائي لأنه يعزز مفهوم الاستقلالية عن المركز ويقوي من الاعتقاد الزائف بالتميز عن بقية المواطنين في أنحاء الوطن المختلفة.
تابعنا الحراك الذي أحدثته زيارة رئيس الوزراء الماليزي الأسبق “مهاتير محمد” ومفجر نهضتها الحديثة إلى بلادنا ومشاركته في منتدى كوالامبور الفكري الذي انعقد مؤخراً بالخرطوم بصفته رئيساً له.. وتابعت بشكل خاص حواراً أجرته قناة الجزيرة القطرية معه خلال فترة وجوده معنا، إلا أن تسجيل الحلقة كان سابقاً لمشاركة “مهاتير محمد” في المؤتمر وسأله مقدم البرنامج عن التحديات التي واجهته أول سنوات الحكم، فقال إن أخطر ما كانت تواجهه ماليزيا، كان هو التباين الكبير والتمييز بين الأثنيات، حيث كان الصينيون يتمتعون بالثروات والأعمال الضخمة، بينما يتفوق الماليزيون الهنود في الأعمال والحرف التي تتطلب الدقة والمهارة، في وقت كانت نسبة من السكان هم (الملايو) يعانون من الفقر والجهل والعطالة، فكان أول ما اتجهت إليه الحكومة أن قامت بتمييز (المالايو) تمييزاً إيجابياً، وفرت لهم التعليم المجاني وكذلك العلاج إلى أن حدث ذلك التغيير المنشود شيئاً فشيئاً، فنهضت الأغلبية لتنهض الدولة.
سُئل “مهاتير محمد” عن إن كان بعض الحكام العرب أو الأنظمة العربية تتصل به لنقل التجربة للاستفادة منها، فقال (السودانيون)، وعندما سئل لماذا لم يستفيدوا من التجربة الماليزية قال (اختلاف الثقافات).
ترى هل يبقى السودان دولة واحدة متماسكة أم يتفكك (؟) الإجابة في ظهر الغيب.
إن أردنا أن نبقى علينا أن نبتعد عن مواطن الجاهلية الأربعة الواردة في القرآن الكريم، وهي (ظن الجاهلية) الذي يعني فساد الأمة بفساد القلوب، و(أفحكم الجاهلية) الذي هو فساد الأمة بسبب فساد الحكام، و(تبرج الجاهلية) وهو فساد الأمة بسبب فساد النساء والأخلاق، و(حمية الجاهلية) التي هي فساد الأمة بسبب القبلية والطائفية والتعصب.. وهذه الأربعة ما أصابت أمة إلا أهلكتها وهدمت ماضيها وأذلتها إلى الأبد.