محجوب محمد صالح للمجهر السياسى
لم أحقق كل أحلامي وأعطتني الصحافة المعرفة والسفر والاحترام
اقتصاد الصحف(دا موضوع خطير) والسلطات تخنقنا به
من أقسى اللحظات في حياتي إعدام “عبد الخالق محجوب”
نعم عرضوا علي مناصب في الإنقاذ ورفضت
تركت الماركسية من 1950 والفكر لا يروح بل يتطور
× ربما نكتشف (فراغاً ما) بين مطلوبات الصرامة المهنية وحالة الإبداع كمتلازمة مع العمل الصحفي؟
– الصحافة هي أقدم مهنة نشأت في العالم وتلمسوا من ذلك الوقت وجلسوا لوضع قواعد تحميها من الإنزلاقات الشخصية واستغلالها في مآرب أخرى، وانتهوا في القرن الـ(19) لمشروع قواعد أساسية تطورت في القرن الـ(20) لمواثيق أخلاقية من النزاهة والصدقية وصحة الخبر وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين. وفي هذا السياق تفهم الحرية بمسؤولية وهي قضيتك كصحفي وتمنعك أن تفتري أو تكذب أو تلحق الأذى بآخرين لأهواء وغرض وانحراف.
× النزاهة والصدقية؟
– دي القواعد الأساسية.
× ولكن الصحافة مهنة إبداع؟
– الإبداع يأتي في التعليق شرط أن يكون بلا إساءة ولا إثارة للنعرات الدينية والعرقية والجهوية ودي كلها جرائم في أخلاقيات المهنة، وأي إبداع يجب أن تقيسه على تلك الأمور لتحصل على (إبداع الصحفي).
× نأخذ مثلاً عمود الأستاذ “إسحاق أحمد فضل الله” مؤثر جداً ومقروء وفيه إبداع حقيقي ومعاييره ذاتية؟
– الانتشار والتأثير ليس كفاية كمقياس لمستوى الحقيقة والتجرد وعليك أن تعرف أن أكثر الأخبار جاذبية وانتشاراً هي أخبار الدعارة والحشيش، وصحيفة NEWS OF THE WORLD هي الأكثر توزيعاً لأنها متخصصة في جرائم الجريمة وأخبار الشرف، وتلك ظاهرة عالمية ولا تعنيني كثيراً وعليك أن تنظر أيضاً إلى TIMES وهي أقل الصحف توزيعاً ولكنها تخاطب صناع الرأي العام والأقلية المهمة وتكون بالتالي الأكثر تأثيراً.
× هل تقرأ عمود أستاذ “إسحاق”؟
– لا أقرأه.
× إطلاقاً؟
– فهمت طريقته وتوجهه واكتفيت من أعمدته الأولى.
× كيف تفهم علاقة الصحفي بالسياسي؟
– عادة تكون باستمرار علاقة متوترة ويجب أن تكون بطبعها متوترة على الدوام، لأنوا السياسي يفكر أن يكون كثير من نشاطه محاطاً بالسرية، بينما مهمة الإعلامي النشر والشفافية وكسر تلك السرية والتصادم واضح، وأظن أن الحل في التعايش فكل واحد مهم للثاني.
× ولكن التوتر قائم وهو صحي جداً للاثنين؟
– التناقض الأساسي دائماً قائم فالصحافي يستغله كمصدر للأخبار بينما السياسي يريد نشر أفكاره (هو)، ومع كل ذلك التناقض هناك مساحة تعاون والعلاقة الشخصية هي الميزان لتقرر تقترب أو تبتعد للحفاظ على مهنيتك واستقلاليتك.
× حالة “هيكل” و”عبد الناصر”؟
– “هيكل” صانع سياسي ولم يأتِ ليأخذ خبراً.
× اقتصاد الصحف؟
– (دا موضوع خطير) والصحافة تقوم على بندين للدخل هما التوزيع والإعلان والسياسي والسلطة تريد السيطرة وخنق الصحافة وتجييرها لمصلحته وإفقارها، والصحافة في بلد متقدم ومنافسة حقيقية تصل لحتة منصفة في توزيع الإعلان، ولكن حينما تكون الحكومة أكبر المعلنين يتم هنا الاستغلال وحصل هذا في ذروته في أيام الإنقاذ وحتى أيام الاستعمار البريطاني في الأربعينيات، تم استخدامه كوسيلة ضغط وتم الهجوم عليها ثم تراجعت عنه في العالم الثالث.
× التوزيع؟
– بالرغم أن التوزيع زمان كانت به مشاكل فلا توجد طيارة ويصل البص تاني يوم لبورتسودان ومرات بالقطر تصل بعد ثلاث أيام، ولكن الجرايد في تلك الفترة ربطت أجزاء السودان بعضه ببعض وتعلم الناس يقرأوا الجرايد.
× كنت جزءاً من عملية التأميم أيام “النميري”؟
– نعم كنت جزءاً من عملية التأميم وفي الحقيقة تم استدعائي الواحدة ظهراً في مكاتبهم وأبلغت بقرار الحكومة بتأميم الجرايد، وقالوا لي وقع الاختيار عليك لتكون رئيس المؤسسة العامة فاعترضت وتجادلنا طويلا واقترحت بإمكانية تعديل القرار، ولكنهم أخبروني بأن إعلان القرار سيكون الثالثة ظهراً في نفس اليوم.
× كيف كان اقتراحك؟
– طلبت تعديل مسؤولية اللجنة بإسنادها تصفية حقوق العاملين وأصحاب الصحف وتهيئة الساحة لقيام مؤسستين هما (الأيام) و(الصحافة) ولمدة ستة شهور لضمان حقوق الصحفيين، وتم قبول رأيي وقامت دار الأيام ودار الصحافة برئاسة “موسى المبارك” و”موسى محمد أحمد”، وفي أبريل (71) ظهر التقرير الختامي وحلت اللجنة نفسها وكان القرار سليماً لأنه يخدم الجهتين، فهناك مطابع وأجهزة ودور وعملنا نظام معاش للصحفيين ما زالوا يصرفونه من حكومة السودان وعبر كل الحكومات وليوم الليلة.
× لو عادت بنا الأيام وصدر نفس القرار هل ستقبل بنفس المهمة؟
– تحت نفس الظروف لو تكررت لا أتردد اليوم وسأقوم بنفس المهمة.
× ماذا تبقى من ماركسية عمي “محجوب”؟
– أنا تركت الماركسية من 1950 أي بعد ثلاث سنوات فقط من إتباعها وكنا ذلك الرعيل الأول.
× ماذا تبقى من تلك الماركسية؟
– الفكر لا يروح ولكن يمكن أن تظل طول حياتك تعدل وتغير ضمن المتغيرات العالمية، فالفكر موجود مع عملية النقد المستمر ليتجدد من داخله.
× بالنسبة للعمل ضمن الأنظمة المحتج عليها أنظر لحالتين، حالة “أبو عركي البخيت” وحالة الأستاذ “علي شمو”، الأول حارب بالصمت والثاني قال نستغل مساحة الحرية (مع من تقف)؟
– المثاليون موجودون دائماً ومع أي نظام حاكم وغير ديمقراطي ودي كلها خيارات تتأثر بقرارات الشخص وتتغير من شخص لآخر، وهناك دوافع وظروف وحسبة وكل فرد يتخذ ما يناسبه، وأحياناً نعرف الموقف الصحيح ولكن عملياً لا يمكن تنفيذه.
× “أبو عركي” و”شمو”؟
– هذا يحصل في كل حتة للأفراد والمؤسسات والأحزاب وكان الحزب الشيوعي معارضاً دائماً لنظام عبود ولم يهادنه أبداً، ولكن حينما طرح نفس النظام فكرة المجلس المركزي قاطعته كل الأحزاب، ولكن الشيوعي قبل به وظل يدافع عنه كمناخ مختلف يجب استغلاله وكان كل الناس ضده وحتى اليوم.
× تلك أحزاب؟
– الحزب الوطني الاتحادي قام على أساس وحدة وادي النيل، لكنه بدل راية وقال ما عاوزين وحدة وادي النيل وأعلن الاستقلال من داخل البرلمان، مع أنه ذات يوم كسب الانتخابات على أساس تلك الوحدة، والصحيح أن هناك متغيرات أثرت عليه في اتخاذ القرار.
× وأنت، كيف اخترت العمل ضمن المناخ الحالي ولم تصمت؟
– أنا لم أواجه تلك الخيارات إلا في حالة مجلس الصحافة وقبلت بها بشروط ذكرتها لك مفصلة.
× هل عرضت عليك الإنقاذ مناصب لتقلدها؟
– نعم عرضوا علي مناصب ورفضتها.
× كيف نفهم المقارنة بين مهنية البي بي سي ومهنية صحيفة محلية؟
– المقارنة ما ساهلة والبي بي سي نموذج لمؤسسة حكومية وملكيتها عامة ووضعت قواعد كثيرة جداً، وهي غير داخلة في ميزانية الحكومة البريطانية وتصلها الأموال من وزارة الخارجية، فملكية المؤسسة للدولة ولكن بإدارة مستقلة ونجحت في دا بينما الصحف المحلية هي ملكية خاصة تراعي فيها المصلحة العامة من مبدأ المسؤولية.
×كيف تصحح هذه المقولة (الصحفي مصادر)؟
– صحيح الصحفي مصادر.
× هناك مغالطة مستمرة حينما تمنع الجهات الرسمية نشر خبر معين بسبب الأمن القومي؟
– الحق دا صحيح وموجود ولكن المشكلة في ظروف ومعايير استخدامه، فمثلاً لا تنشر الخبر الفلاني لحسابات الأمن القومي للبلد وأذكر أن الأمير “إدوارد” ذهب للتدريب في الجيش البريطاني فطلبوا من الصحف الاحتفاظ بسرية الخبر حتى لا يتم الاعتداء على تلك القاعدة وضرب الأمير، وفعلاً كان التقدير صادقاً ولكن حينما تسرب الخبر من جريدة فرنسية تم نشره وصاروا في حل من ذلك الالتزام.
× المبدأ صحيح؟
-(دا البيحصل والمبدأ صحيح) ولا خلاف حوله ولكن المشكلة كامنة حول استغلال ذلك المبدأ.
× كثيراً ما نسمع (نحن مع الحرية ولكن بمسؤولية)؟
– قالوها من سنة (46) للتستر على الأخطاء السياسية، ودي حتة الخلاف بتفسير المسؤولية تفسيراً خاطئاً لتأمين الوضع القائم ودعمه.
× هل حصل أن تم إجبارك على كشف مصادرك؟
– حصلت ضغوط ولكني لم أكشف عن مصادري إطلاقاً.
× ودخلت السجن؟
– لا لم أدخل السجن بسبب حجب تلك المصادر وعدم الكشف عنه والمصادر لا توضع في رف الدكان وليست هي في السماء، بل خلق المصادر هي الميزة الجوهرية فأنت من يحددها ويكيف علاقته بها ويوجهها لصالح الحقيقة.
× هل تقرأ السجال بين الزملاء في الصحف؟
– دي موجودة وعندها تاريخ في الصحافة السودانية ودائماً تبدأ بقضية عامة وتنتهي وتنحرف لأسباب شخصية وشتائم.
× نحكي حاجة؟
– في 1935 كان مدير التحرير لجريدة (النيل) السودانية مصري الجنسية “حسن صبحي”، وقدم محاضرة في نادي الخريجين وقال لا توجد ثقافة سودانية ولا أدب يخص السودانيين بل كله مصري، وقام “المحجوب” وقال دا كلام فارغ ونحن عندنا شخصيتنا وأدبنا ومتأثرين فيه بواقعنا، وكان سجالاً حاداً جداً انحرف أخيراً ووصف “المحجوب” “حسن صبحي” بالأجنبي وكيف يصبح مدير جريدة سودانية، وتدخلوا ناس “عرفات محمد عبد الله” وعملوا مصالحة.
× نحن في مثل هذه الأيام نبدأ من العكس بالأمور الشخصية وننتهي بها؟
– (دا طبعاً الأسوأ) أن تبدأ من الأول بصورة شخصية ودي ليست سجالات بل مجرد(شكلة).
× ظاهرة كتاب العلاقات العامة في شكل صحفيين؟
– هؤلاء أعرفهم من أول جملة في كتاباتهم (وما قاعد أقرأ ليهم أصلاً).
× اعترف كثير من السياسيين المعارضين بالدور المهم للمحررين العاديين، في إثراء الصحافة بمواضيع جادة جداً ووطنية؟
– دا دور متوقع وهم في الأنظمة المنغلقة على نفسها يحاولون المحرر أن يفتح الباب دا والآخر يحاول إغلاق تلك الثغرات ليجمل صورته من طريق ثان.
× مصادرة صحيفة يعني؟
– المشكلة تكمن في (فكرة المصادرة) ومرات يقولوا ليك أمبارح زعلتنا وتتم عقوبتك بأثر رجعي.
× شيء غريب؟
– هي مثل لعبة عض الأصابع البكورك أول هو المهزوم.
× تغيرت أمور وأمور ونحن في زمن الواتساب والمصادرة صعبة؟
– نعم ما عادت الصحيفة هي المصدر الوحيد للنشر وما عادت المصادرة هي العلاج الذكي للجهات الأخرى، وانفتحت آفاق للنشر تفوق ما تنشره الصحف من (50) إلى (60) مرة ولو كانت الصحيفة توزع (10) آلاف فالموقع يفوقها ويوزع (100) ألف مرة.
× المصادرة ما عادت تجدي نفعاً؟
– وقرار غير ذكي وفيه تسطيح بما يجره من كراهية تابعة لذلك التصرف.
× العمود النسائي؟
– أنا تجاوزت تلك التفرقة وأعامل البشر كبشر وأثبتت المرأة أنها متساوية مع الرجل في كل شيء، وفات الزمن لتعامل معاملة القاصر ولابد أن تستمر في رفع راية الجندرة، وبدأ العمود النسائي عموداً تبشيرياً حول المطبخ والأسرة، ولكنها رجعت له بصورة أعمق ولا يوجد صراع بين الرجل والمرأة والطرفان في مستوى واحد.
× هل تقرأ عمود البنات في اليومين دي؟
– أقرأ لهم وأرتاح جداً لبعضهم.
× هناك اتهام مستمر ضدهن بطرح الحاجات الخاصة في العمود اليومي العام؟
– هي مجرد حالات وليست أغلبية وهن يثرن قضايا حقيقية.
× كيف تقرأ الجرايد؟
– أنظر للعناوين وغالباً ما تكون فيها إثارة بينما يكون الخبر المقصود صغيراً جداً، وأحياناً لا توجد صلة بين العنوان ومتن الخبر.
× هل تدمن قراءة عمود معين؟
– لا لا لا.
× لمن تقرأ؟
– ما عاوز أقول منو.
× هناك فرضية حايمة بضرورة أي صحفي لازم يتوفر عنده قدر من المزاج اليساري؟
– ما أظن والأداء مهم أكتر من الأسلوب والكتابة الصحفية لا تأتي من الخيال وما شايف تلك الأهمية، فحينما تلتزم بكل القواعد وتقول كل الحقائق ستكون صحفياً ناجحاً.
× “عبد الخالق محجوب”؟
– دا صديق من المدرسة الثانوية وهو متميز ليس في المجال الميت بل كان تميزه في كل مجالات الحياة.
× واللامع فيه؟
– أي قضية يعمل فيها فكره الناقد وبأمانة كبيرة واقتنعت بذلك حينما سافر لمصر وهو بدأ نشاطه الماركسي الفعلي من مصر برز ووجد احتراماً خاصاً، وكان يجمع بين التنظير والعمل وكان شيئاً نادراً.
× دا “عبد الخالق”؟
– وكان مستعداً دائما للتضحيات وأصيب بداء الرئة في مصر نتيجة معاملة السجون المصرية له.
× له استحقاقاته في الحزب الشيوعي السوداني؟
– هو الزي بنى الشيوعية في مرحلتها الثالثة في السودان.
× أعدمه “النميري”؟
– كان إعدامه من أقسى اللحظات في حياتي.
× هل واحدة من مهام الصحافة تغيير الأوضاع السياسية القائمة؟
– التغيير لا يكون إلا في حالة وجود خطأ وبالضرورة لو كانت تلك هي الحالة، فالصحافة تقود للبحث عن حاجات صحيحة وهي مبشر مستمر بالتغيير.
× كيف تنظر للقارئ السوداني؟
– في البداية بدأ بها كتثقيف ذاتي ودي كانت سبب خصوبة الثلاثينيات وكان أعلى نظام تعليمي مدرسة ثانوية واحدة في كل البلد، وكان من الملفت في ذلك المناخ أن تتحدث الصحافة عن حقوق الإنسان عن طريق “أبورنات”، ودخل مجال القانون بتلك المقالات.
× وعي مبكر بالحوار والنقاش؟
– كان في حلقات نقاش في البيوت ويتم تلخيص كتب لبعضهم البعض.
× الفضول الصحفي؟
– الصحافة كلها قائمة على الفضول.
× الإعلام الحربي؟
– لا أعرفه
× أنت مفرط في الالتزام بقواعد الصحافة النظيفة ومتعصب لتلك المفاهيم؟
– أنا فقط مرشد.
× ما رأيك في الرصد السنوي لمجلس الصحافة والمطبوعات؟
– الأرقام لا تستند على حقائق واضحة ولا مستندات ومقياس التوزيع لا يعكس حقيقة التأثير.
× هل تقرأ الصحافة الرياضية؟
– لا أتابعها وهي ليست صحافة رياضية بل صحافة كورة القدم.
× والصحف الاجتماعية؟
– لا توجد صحف اجتماعية وهي صحف جرائم.
× ما رأيك في الصحافة في النظم الشيوعية المغلقة؟
– رأيي أنها لم تعطِ الحريات الصحفية بالمعنى الصحيح ولذلك سقطت كل تلك الأنظمة.
× هل حققت كل أحلامك؟
– لا لم أحقق كل أحلامي وحققت قدراً لا بأس به.
× مشوار الـ(70) عاماً صحة وعافية يا رب(أخذت الصحافة وأعطت؟).
– أخذت زمني وكان يمكن أستغله بصورة أفضل في مجال تاني بدخل أحسن، وأعطتني الكثير مثل المعرفة والسفر والاحترام.