أوهام أباطرة قطاع الشمال تتجلى في "أديس أبابا"..!
بات جلياً أن طموحات قادة الحركة الشعبية في ما يعرف بقطاع الشمال لا تقف عند حد فرض شرط الإذعان وحق الأمر والنهي في شؤون جبال النوبة والنيل الأزرق. ويبدو أن انصياع الخائرين من أبناء هاتين المنطقتين لنزواتهم التسلطية قد أغراهم للسعي لإدخال دارفور وشرق السودان وشمال كردفان ومشروع الجزيرة ومناطق السدود في المناصير وكجبار وغيرها لحظيرة نفوذهم، في استهتار مدهش بأهل تلك الأقاليم وحركاتها والاتفاقيات التي أبرمتها، مثل اتفاقية سلام الشرق واتفاقية الدوحة. وهذا إضافة لتنصيب أنفسهم أوصياء على الشعب السوداني وقواه السياسية للتفاوض نيابة عن الجميع مع المؤتمر الوطني في قضايا الدستور والاقتصاد والعلاقات الخارجية، ولاسيما مع دولة جنوب السودان وغير ذلك من القضايا الوطنية .
وحتى لا نبدو متجنين على الأباطرة الجدد في نظر غير المتابعين، نورد بعضاً مما جاء في وثيقة موقف الحركة الشعبية في مفاوضات أديس أبابا مع الحكومة السودانية التي قدمها السيدان “ياسر عرمان” و”وليد حامد”، وكلاهما لا علاقة له من بعيد أو قريب لا بجبال النوبة ولا النيل الأزرق اللتين يفترض أن المفاوضات تخصهما. فقد جاء تحت العنوان الفرعي (المنطقتان) ما يلي:
(يجب أن تتعامل اللجان السياسية والأمنية المنصوص عليها في الإتفاقية الإطارية مع القضايا السياسية والأمنية للمنطقتيين. زيادة على ذلك وإتساقاً مع الحوار الوطني العريض فإن إتفاقية أديس أبابا الإطارية تجعل الحركة الشعبية تقترح تكوين لجان مماثلة لمعالجة مظالم مناطق دارفور، شرق السودان، مناطق السدود، شمال كردفان ومشروع الجزيرة).
ومما جاء تحت العنوان الفرعي (الفترة الانتقالية) ما يلي:
(وبالمثل فإنه ثمة حاجة إلي عملية دستورية إقليمية شاملة في مختلف مناطق السودان تجدد العلاقات بين المركزوالأقاليم والولايات ومن شأن ذلك معالجة القضايا المهمة في الأقاليم المعنية… إلخ )
وجا تحت العنوان الفرعي (العلاقة بين دولتي السودان) ما يلي:
( سوف تعمل الحركة الشعبية من اجل هدف إعادة توحيد السودانيين في وحدة بين دولتيين قابلتيين للحياة ديمقراطيتين… الخ).
لقد أوردنا تلك النصوص – بأخطائها اللغوية – كنماذج من وثيقة موقف الحركة الشعبية دليلاً على عقلية الوصاية التي تسيطر على هذه الحركة بما يجعلها تتوهم النيابة عن أقاليم النزاعات كافة دون اكتراث بحركاتها، وكل قياداتها، بل عن سائر الأمة السودانية في قضاياها الداخلية والخارجية بما في ذلك توحيد دولتي السودان بعد أن عملت لفصلهما. ومن أهم الملاحظات التي يمكن ذكرها على وثيقة موقف الحركة الشعبية ما يلي:
أولاً: في المسار الإنساني سعت الحركة الشعبية لتكريس فهم يجعل من الإغاثة الإنسانية خط إمداد لقواتها لتمكينها من إطالة أمد الحرب.
ثانياً: في المسار السياسي الذي جاء في أربع صفحات تقريباً أختصر ما يخص قضيتي منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق في سطر ونصف ونصه: (يجب أن تتعامل اللجان السياسية والأمنية المنصوص عليها في الاتفاقية الإطارية مع القضايا السياسية والأمنية للمنطقتين). عدا ذلك طفحت الوثيقة بأوهام وطموحات قطاع الشمال بحل مشاكل سائر أقاليم السودان وإعادة هيكلة الدولة السودانية والقوات النظامية وسائر الأجهزة الأمنية والعلاقة مع دولة الجنوب وحل مشكلة الاقتصاد بأطروحات فطيرة تناسب محدودية قدرات قادة قطاع الشمال في كل مجال.
ثالثاً: واضح أن الوثيقة صممت لإفشال المفاوضات قبل بدايتها أملاً بل بالأحرى توهماً لما يمكن أن يجره القرار 2046 ضد الحكومة والدليل على ذلك طرح شروط استفزازية لبدء المحادثات المباشرة، ومن أمثلتها:
أ – أن تصدر حكومة السودان بياناً عاماً للاعتراف بالاتفاقية الإطارية أي أن القبول بالقرار 2046 لا يكفي لإشباع غرور قادة قطاع الشمال.
ب – الرفع المباشر للحظر غير الدستوري على الحركة الشعبية (قطاع الشمال) والاعتراف بها كحزب سياسي.
ومهما يكن من شيء، فإن وثيقة موقف الحركة الشعبية (قطاع الشمال) تحدث بجلاء أن قادة هذا القطاع قد جاءوا إلى هذه المفاوضات بأوهام المنتصر؛ لإملاء شروطه على المهزوم؛ لإقامة السودان الجديد في الشمال الذي وعد به “باقان أموم” قبلاً، عندما صرح بأن مشروع السودان الجديد لا يتوقف على الوحدة بل يمكن تحقيقه حتى في حالة الانفصال. هذا المشروع الذي إن نجح سيحول السودان لإمبراطورية الشر ولن ينجح بإذن الله، يراد له أن يقوم على جماجم أهل جبال النوبة والنيل الأزرق. ويبدو أن مصدر وهم الانتصار الذي يعانيه قادة قطاع الشمال هو الفهم الفطير للقرار 2046 وتداعياته. وقد نجحت الحركة من خلال كتائب الأكاذيب والإشاعات التي قوامها عملاؤها في الداخل في زرع هذه الأوهام في عقول البسطاء بحيث أصبح كثير منهم ينتظر يوم 2/8/2012م بفارق الصبر. ومن باب مسؤوليتنا في التوعية نقول للمغرر بهم أن يوم الثاني من أغسطس ليس ساعة الحاقة ولا القارعة ولا الطامة الكبرى. فالقرار 2046 رغم صدوره تحت الفصل السابع لا يتضمن أي تهديد بالخيار العسكري. فهو لا يذكر أصلاً الفقرة 42 التي تتيح إمكانية اتخاذ إجراء عسكري. وكل ما يمكن توقعه من عقوبات سيكون بموجب الفقرة 41، وهي فقرة تتحدث عن العقوبات الاقتصادية. ثم من الذي قال إن العقوبات ستفرض اعتباطاً على حكومة السودان بنهاية المهلة؟ إن هذه العقوبات إذا فرضت، فيجب أن تفرض على الطرف الذي يقرر المجلس مسؤوليته عن الفشل في التوصل لاتفاق وقد تطال الطرفين معاً وقد لا تفرض أصلاً.
ومهما يكن فإن قادة قطاع الشمال بأوهامهم وطموحاتهم التي هي أكبر من قدراتهم قد يفوتون – على الأرجح مرة أخرى – فرصة تحقيق السلام في المنطقتين. والواقع أن ذلك ليس من أولوياتهم كما يقول التاريخ القريب والبعيد، فقد استخدموا النوبة لمدة عشرين عاماً لصالح أجندة الجنوب ثم تركوهم على قارعة الطريق في نيفاشا، ثم أشعلوا الحرب مرة أخرى من أجل طموحاتهم الشخصية، وعندما سنحت فرصة إيقافها بمبادرة وقف إطلاق النار من طرف واحد التي أعلنها رئيس الجمهورية في العام الماضي، أهدروها بفرمان “ياسر عرمان”. واليوم بأوهام الانتصار الكاذب بعصا القرار 2046 قد يهدروا الفرصة لتستمر معاناة المدنيين الذين لا يهمهم أمرهم. إن ما يسعى له قادة ما يسمي بقطاع الشمال تحقيقاً لطموحاتهم الشخصية كما تجلى في وثيقة موقف الحركة في المفاوضات أوهام بعيدة المنال، فهذه الوثيقة أشبه ما تكون بإجابات تلميذ لم يفهم سؤال الامتحان، ويستحق صفراً على إجاباته مهما بذل فيها من مجهود، وهذا ما نتوقعه من الوساطة الأفريقية أن تعتبر وثيقة موقف الحركة خارج الموضوع.
وحتى لا تستمر معاناة أهل جبال النوبة والنيل الأزرق يجب على المعنيين التصدي لمحاولات الحركة لإطالة أمد الحرب باتخاذ مواقف حاسمة أهمها في تقديرنا ما يلي:
أولاً: على الحكومة أن تلزم موقفها التفاوضي الذي وقفنا عليه من خلال الوثائق التي حصلنا عليها. وجوهر هذا الموقف أن اتفاقية نيفاشا هي المرجعية للترتيبات الأمنية والتسوية السياسية النهائية، وأن البداية لابد أن تكون بالملف الأمني، وأن التسوية السياسية عمادها رأي كل الفعاليات السياسية والشعبية في الولايتين ولا مجال لتسوية ثنائية تدعي فيها الحركة الشعبية زوراً تمثيل أهل المنطقتين.
ثانياً: على القوى السياسية والشعبية كافة إسماع صوتها بقوة للمجتمع الدولي وخاصة الوساطة الأفريقية والأمم المتحدة من خلال عمل سياسي وإعلامي منسق. إن الفراغ ليس من طبيعة الأشياء، وأي فراغ يملأ ولو بالغثاء. ونعلم جميعاً أي غثاء ملأ الفراغ حين نأت القوى السياسية الأخرى عن مستنقع نيفاشا، وأفسحت المجال للشريكين. وفي جبال النوبة على وجه الخصوص عاثت الحركة الشعبية فساداً فوق تصور الكثيرين، ولا غرو فهي بحكم تواضع قدرات غالب كوادرها الأخلاقي لا تملك مقومات البناء بيد أنها تملك قدرات استثنائية للهدم والتدمير المادي والمعنوي.
وهذا ما يجعلنا نطلق على المشروع الذي يسعون لإقامته بإسم السودان الجديد إمبراطورية الشر. فنموذج الدولة التي يسعون لإقامتها ماثل أمامنا اليوم في جنوب السودان. إنها دولة الاغتيالات والطغيان والقمع حيث يقبع بعض أشهر ساسة الجنوب في سجون الحركة الشعبية، ولا ننسى هنا الإشارة للقائد “تلفون كوكو” المعتقل هناك بأمر قادة قطاع الشمال عملاء تلك الدولة. هي أيضاً دولة الفساد المالي ولا أدل على ذلك مما أوردته قبل أسابيع وكالة رويترز ومفاده مطالبة الرئيس “سلفاكير” لعدد سبعين من قيادات الحركة الشعبية بإعادة أربعة ونصف مليار دولار منهوبة. هي كذلك دولة التفسخ الأخلاقي، وأبلغ دليل على ذلك ما ذكرته تقارير منظمات دولية وبثته الإذاعة السويدية مؤخراً من أن جوبا باتت تحتل المركز الثاني أفريقياً في تجارة الدعارة بعدد 250 ألف مومس. هذا هو نموذج دولة السودان الجديد الذي يبشرنا به قادة قطاع الشمال ولا نعدو الحقيقة في شيء، حين نطلق على مثل هذا النموذج إمبراطورية الشر.
{ حواشي :
{ في المقابلة التي أجرتها معي صحيفة (المجهر السياسي)، ونشرت يوم الاثنين الموافق 30 من يوليو وقع التباس بشأن رأيي في عودة التفاوض مع قطاع الشمال، والصحيح أن موقفنا الثابت على المستويين الحزبي والشخصي أن التفاوض ضرورة لاعتباره الوسيلة المثلي لحل أي نزاع.
{ ننبه المسؤولين على خطورة استغلال بعض المتنفذين لمواقعهم الرسمية في التأثير على العدالة.. نقول ذلك وبين أيدينا اسمي اثنين من قادة قوة نظامية برتبة لواء يستغلان موقعهما للتأثير على العدالة في قضية بين أحد أقاربهما والمواطن “رزق الله أحمد النور”. وسنكشف أسماء المذكورين في الوقت المناسب للجهات المعنية.