بعد.. ومسافة
غارق في بحر النعيم..
مصطفى أبو العزائم
كان “الطاهر ود الأزيرق” متخماً بالقليل من ملاح الروب الذي أحاط بعصيدة الدخن الساخنة، التي تناولها أمام دكان “عبد الباقي أبو شعر” المطل على شاطئ النهر المتسخ، وهو الدكان الذي نشأ في منطقته تلك قبل نشأة السوق ذاته، وقد كان مملوكاً لوالده “الحاج النعيم أبو شعر” وقد آل إلى ابنه “عبد الباقي” بعد تقسيم التركة، وأيلولة معصرة زيوت صغيرة إلى شقيقه “التاج”. وحصول شقيقتهما الأكبر مع بقية الورثة على أرض زراعية لا تتجاوز مساحتها العشرة أفدنة، لكنها كانت جيدة الغلة، عظيمة الإنتاج.
“الطاهر ود الأزيرق” ما كان إلى يوم الأمس القريب يحس بمر السنين ولا يشعر بالوهن والضعف، رغم بلوغه سن السبعين، بل كان دائماً يشعر بالقوة والفتوة والنشاط الذي يجري مجرى الدم في عروقه البارزة وجسمه النحيل، لكنه اليوم ما عاد هو ذلك الرجل، لقد خرج من منزله الذي لا يبعد كثيراً عن متجره المتخصص في بيع كل أنواع زيوت الطعام، وجميع أصناف السمن البلدي بشقيه (البقري والغنمي).
خرج دون أمنيات ولا روح وثابة، غادر بيته دون زوجته “التاية بت فرج الله” عما إذا كانت تريد شيئاً من السوق، مثل عادته كل يوم، وهي نفسها لم تطلب شيئاً، فقد انشغل بالها بعودة ابنها “صديق” وأسرته الصغيرة من الخرطوم إلى القرية لقضاء جزء من العطلة المدرسية معهما في المنزل القديم الواسع، الذي أصبح شبه خالٍ إلا من خيالين لرجل عجوز كان نشطاً حتى يوم الأمس، وزوجته الغارقة في مناجاة أطياف أبنائها وبناتها الذين تفرقت بهم السبل، بعد أن نالوا تعليماً عالياً قوى من مراكزهم ليصبح “صديق” معلماً بالمرحلة الثانوية، و”نجاة” معلمة بإحدى دول الخليج بعد أن التحقت بزوجها وابن خالها “محمد ود إدريس ود فرج الله”.. بينما التحق “إسماعيل” بالقوات المسلحة ضابطاً في بدايات حياته العملية، لكنه يبقى معهما عقب تخرجه إلا لأسابيع معدودة ظل بعدها يتنقل من موقع إلى آخر، لكن خطاباته لم تنقطع ولا حوالاته المالية.
تمدد “الطاهر ود الأزيرق” على عنقريبه الموضوع جانب مدخل متجره الأيمن المشرَّب بالدهون، والذي تختلط فيه رائحة السمسم مع رائحة السمن البلدي النفاذة، ولم يفكر لحظة ذاك في القدر الضئيل الذي تناوله خلال إفطاره مع “عبد الباقي أبو شعر” ومع ذلك أحس بحالة من الشبع عجيبة أوصلته مرحلة التخمة، لم ينشغل بذلك، ولا بعودة ابنه “صديق” وأسرته إلى القرية مثل ما يفعل كل عام منذ أن تزوج من “صفية بت عجيب” التي يعود معها وأطفالها الخمسة ليقضيا العطلة الصيفية في حلة شجر، هي تقضي معظم الوقت مع أسرتها، وهو يوزع حركته بين منزل الأسرة وبين أصدقائه الذين آثروا البقاء في (حلة شجر) رغم المغريات وأحلام الصبايا التي تزين الرحيل والهجرة في أعين الشباب.
مد “الطاهر ود الأزيرق” يده النحيلة المعروقة تحت عنقريبه العتيق يبحث عن قرعة صغيرة مملوءة بالماء ليشرقب منها، فقد كان يشعر بجفاف في الحلق، ويحس بأن شفتيه قد تيبستا وأن حنجرته توشك أن تتشقق.. بحث يمنة ويسرة بلا فائدة، انقلب على جانبه الأيمن، لكنه لم يستطع أن يعود إلى وضعه السابق، وكان يرى مثلما يرى الحالم غباراً كثيفاً لسيارة مسرعة يتجه نحوه، تداخلت الصور وتشابكت الأصوات، لم يستطع في البداية إلا أن يحدد صوت رفيق صباه وصديق طفولته “عبد الباقي أبو شعر” ثم ضحكات ملوَّنة تملأ الفضاء وتمتد حتى منتصف النهر الهادئ الذي بدأ رائقاً وصافياً كما لم يكن من قبل.. ورأى مجموعة من الحمام المزركش تطير ثم تحط على الشاطئ تبحث عن الحب وبقايا ما يتناثر من القفاف والجوالات قبل أن تدخل إلى طاحونة الخواجة، رغم أن صاحبها لم يكن خواجة.
الصور تداخلت والأصوات تشابكت، ورأى قريته الوادعة (حلة شجر) مثلما كانت قبل أكثر من ستين عاماً، بيوتها القديمة المتربة، وصوت أبيه يناديه بنبرة دافئة لم يسمعها إلا عنده، وشاهد أمه “السارة بت سليم” تفتح ذراعيها وتستقبله بذات القرعة التي كان يبحث عنها، لكنها كانت تمتلئ باللبن الحليب الساخن.
تضخمت الأشجار وعظمت ظلالها، وصوت “عبد الباقي أبو شعر” يعلو مرحِّباً بـ”صديق” وأسرته الصغيرة، ويقول له إن والده هائم في الملكوت.. يضحكان ضحكاً عذباً.. ويتجهان نحو عنقريب “الطاهر ود الأزيرق” الهائم في الملكوت.. هنا انقطع الإرسال الخارجي، ولم يعد “الطاهر” يعي شيئاً وما عاد يستمع إلى أصوات النحيب.. مات سعيداً.. هائماً في الملكوت غارقاً في بحر النعم.
.. و .. جمعة مباركة