المعادن في دارفور… التنمية تطفئ نار الحرب
افتتاح مكتب الوزارة بـ”الجنينة”
الجنينة – نيالا- عقيل أحمد ناعم
وحتى إذا بلغنا مغرب الشمس وجدناها تغرب في أرض بكر مثقل ظاهرها وباطنها بالخير ووجدنا فيها قوماً لا يستحقون إلا ويُتخذ فيهم حسن ويُقال لهم من الأمر يسر.. هي “الجنينة” أو (دار أندوكا) كما يحلو لأهلها أن يسموها. . ومنها حملنا الطائر الميمون نحو الجنوب الشرقي حيث (البحير) نيالا تلك المدينة الباذخة في دارفور أرض السلاطين والملوك … هنا وهناك توقن حق اليقين أن لا سبيل لإطفاء نار الحرب وتجاوز مسبباتها ودوافعها إلا بجعل التنمية وحدها لا غيرها واقعاً يسعى بين الناس ..فالتنمية أينما سلكت فجاً سلك شيطان الحرب فجاً آخر.. وهو يبدو ما أدركته وزارة المعادن فهرعت إلى ولايتي غرب وجنوب دارفور تحمل (دلو) تنمية تريقة على نار الحرب إسهاماً في إخمادها.. فما بين افتتاح المكتب الإقليمي لهيئة الأبحاث الجيولوجية بالجنينة والعمل على تطوير ودفع النشاط التعديني في جنوب دارفور كانت أمس الأول زيارة وزير المعادن “أحمد محمد صادق الكاروري”، ووفد من الخبراء والمختصين للولايتين والتي عنوانها (انتهت الحرب وآن الأوان لتبدأ التنمية).
غرب دارفور ..صافرة البداية
رغم مقولة (أن السودان بلد معدني) وبالأخص دارفور إلا أن ولاية غرب دارفور ظلت غائبة عن النشاط التعديني طيلة السنوات الماضية. . (ولئن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً)… ولكن الوزارة أرسلت بعثة فنية متخصصة في مارس الماضي فتوصلت إلى حقيقة وجود شواهد معدنية تؤكد غنى الولاية بمختلف أنواع المعادن بما فيها الذهب واليورانيوم .. ليبرز تلقائياً هاجس الأمن الذي يعطل كل أحلام التنمية. ولكن مجلس وزراء حكومة غرب دارفور في اجتماعه مع وزير المعادن ووفد الوزارة أعلن على لسان وزير التخطيط العمراني مسؤول ملف التعدين بالولاية “عبد الرحمن حمور” استتباب الأمن بمختلف أنحاء غرب دارفور وخلوها من الحركات المسلحة وأي مهددات أمنية، مبدياً تفاؤل أهل الولاية بأن يسهم المكتب الإقليمي لهيئة الأبحاث الجيولوجية بالجنينة في وضع الولاية في أولى خطوات التحول إلى ولاية معدنية بدءاً بمرحلة الاستكشاف وصولاً إلى الإنتاج. ومضى المدير العام لهيئة الأبحاث الجيولوجية د.”محمد أبو فاطمة” في تأكيد ثراء الولاية بتجمعات متنوعة من المعادن متمثلة في الذهب والعناصر الأرضية النادرة والنحاس والرصاص وحتى اليورانيوم وخامات الكربون. وأوضح أن المكتب الإقليمي المفتتح سيقوم بعمل مشترك مع الولاية في مختلف الأنشطة التعدينية بداية بالجهود (التخريطية) لمواقع التعدين والمواقع الزلزالية ..وقدم مجموعة من المختصين في الهيئة تنويراً وشرحاً كاملاً لأعضاء حكومة ومجلس تشريعي الولاية وممثلين للمجتمع المدني، حول إمكانيات الولاية في المعادن وتوزيعها الجغرافي. وأشار العرض لاحتواء الولاية على أجود أنواع الجرافيت في (جبل ميرمتا) وهو ذات الموقع الذي تأكد فيه وجود الذهب، بخلاف وجود ذهب رسوبي يجعل من الولاية واعدة في تعدين المعدن الأصفر. وأوضح التنوير أن غرب دارفور بها حالياً مربع استثماري واحد، بجانب مقترحات لثلاثة مربعات ذهب وحديد معاً، وستة مربعات معادن نفيسة ونادرة، وستة مربعات يورانيوم.
(منقصة) البنى التحتية وتعقيدات الأراضي
إن كان هاجس الأمن قد تراجع، فلا زالت مشكلة البنى التحتية غير الملائمة حاضرة بغرب دارفور، من طرق معبدة وغيرها من الخدمات، وهو ما نبه إليه وفد الوزارة مطالباً بضرورة تطوير البنى التحتية لتهيئة البيئة الاستثمارية، خاصة في ظل التطور التشريعي المتمثل في (قانون تنمية الثروة المعدنية 2015)، بجانب المطالبة والنصح بإزالة كافة المعيقات خاصة في ما يلي تمكين المستثمرين من استغلال الأراضي، لينبري والي الولاية “فضل المولى الهجا” مؤكداً استعداد حكومته للتعاون مع الوزارة في توفير الأمن الذي أكد أنه أصبح واقعاً في غرب دارفور، بجانب وعده القاطع بمعالجة كافة التعقيدات المتعلقة بالأراضي والقوانين المحلية..ووجه كافة أجهزة الولاية للاستعداد لتوفير كل ما يعين الوزارة في استخراج خيرات باطن الأرض.
المعادن..رجاءات أهل السودان
هكذا وصف الوزير “أحمد الكاروري” وزارة المعادن، مشيراً إلى الصدمة التي أصابت الاقتصاد السوداني عقب ذهاب غالب عائدات النفط بانفصال جنوب السودان والتي لم تعوضها إلا عائدات المعادن وبالأخص الذهب، لافتاً إلى أن الدراسات أثبتت أن السودان أرض معدنية ونبه إلى التعاون الكبير مع روسيا والصين وألمانيا في الاستفادة من تقنياتها الحديثة في مجال التعدين، على رأسها (الاستشعار عن بعد) والتي أثبتت وجود كميات كبيرة من المعادن. وأوضح أن الاتفاق مع روسيا يشمل مشروعاً لتطوير التعدين به سبعة مجالات أهمها الخريطة الجيولوجية لكل السودان ودراسة تفصيلية لخمسة مواقع في مساحة (300) كلم. وأوضح أن الوزارة تمكنت في سبيل تسهيل عمل المستثمرين من تقليص المدة الزمنية المستغرقة، منذ بدء الدراسات الأولية وحتى توقيع العقود وبدء الإنتاج من سبعة أعوام وحتى عامين فقط .
نسب مهمة وبشريات
وكشف وزير المعادن عن إنتاج (65.5) طن ذهب خلال الأشهر التسع الماضية (80% إنتاج تقليدي). وأعلن خلال الاجتماع المشترك مع حكومة ولاية غرب دارفور استهداف الوزارة رفع الإنتاج إلى (100) طن في العام. وكشف عن ازدياد إنتاج شركة(أرياب) من الذهب بعد السودنة بنسبة (18%)، بجانب تزايد إنتاج القطاع المنظم عموماً، إلا أنه شكا من تهريب الذهب خارج السودان. وقال: (نحتاج لسياسات مشجعة تقلل التهريب).
وبدا واضحاً سطوة وأهمية التعدين التقليدي من خلال نسب الإنتاج التي حققها وعدد المواطنين الممارسين لهذا النشاط وهم مليون مواطن، ما جعل الوزارة تسعى لتنظيمه وتقنينه. وكشف الوزير عن اكتمال تقنين وتنظيم التعدين الأهلي بنسبة (85) في المائة في (12) ولاية و(221) موقع تعديني. في السياق كشف “الكاروري” عن إجازة الرمز الوطني التعديني السودان في يناير المقبل في مواكبة للدول المعدنية. وفي ختام الاجتماع سلم الوزير خريطة الولاية الجيولوجية للوالي وافتتح المكتب الإقليمي وسط المدينة .
دعوة لتغيير نمط التفكير بين المعادن والزراعة
يبدو أن وزير المعادن “أحمد الكاروري” غير مؤمن بأن الزراعة هي الرافع الأساسي للاقتصاد في السودان بل وفي غيره من الدول، الأمر الذي دفعه خلال الاجتماع مع مجلس وزراء جنوب دارفور بنيالا للدعوة إلى تغيير نمط التفكير السائد، وتبني طرق إدارة جديدة بمعايير وأسس مختلفة بعيداً عن التقاليد وأنماط الإدارة والتفكير المتوارثة. وكان تركيزه منصباً على ضرورة إعادة التفكير في الاعتقاد السائد بأن الزراعة هي قاطرة الاقتصاد السوداني، واستدل بنسب مساهمة الزراعة في الدخل القومي لعدد من الدول الكبرى مثل أمريكا التي لا يتجاوز إسهام الزراعة في دخلها القومي (0.09%)، وفي البرازيل التي وصفها بالدولة الزراعية لا يتجاوز (8%)، في حين يصل في بعض دول أفريقيا إلى (35 – 50%). وألمح إلى أن الزراعة لم تعد قادرة على أن تقطر الاقتصاد خاصة في غياب التصنيع وزيادة قيمتها المضافة. وقال: (لابد أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون)، لكنه نبه إلى أن المعادن ثروة ناضبة تحتاج إلى إحسان إدارتها. وأوضح أن الوزارة اتجهت في سبيل (الإحسان) إلى وضع قانون الثروة المعدنية كأساس قانوني وإنشاء شركة الموارد المعدنية كجهة رقابية ومعنية بالجوانب المالية والبيئية. وأكد “كاروري” أن جنوب دارفور ولاية غنية بالمعادن وأنها يجب أن تجود إدارتها لهذه الموارد. وكشف التنوير المقدم من وفد الوزارة إلى توزع المعادن من ذهب ويورانيوم وغيرها على مختلف جهات الولاية خاصة منطقة حفرة النحاس، وكشف عن مقترح لإضافة ثمانية مربعات ذهب ومربع واحد يورانيوم .
ملاحظات ومعوقات
بعض أعضاء حكومة جنوب دارفور وخاصة معتمدي المحليات الحاضنة للتعدين ومن بينهم معتمد (الردوم)، أكد غنى محليته بالذهب وأن منطقة (درابة) وحدها بها (20 -30) ألف معدن، لكنه بالمقابل شكا من انقطاع المنطقة تماماً في فصل الخريف بسبب وعورة الطريق وطالب بضرورة تعبيده، في حين أشار معتمد (مشنج) من معاناة المعدنين التقليديين من انعدام معدات التعدين وشح المياه. وطالب في ذات الوقت بمراجعة عمل الشركتين العاملتين بالمحلية حتى تستفيد المحلية من عوائد الإنتاج. ومضى وزير الشباب والرياضة في ذات الاتجاه مطالباً بإلزام الشركات بتخصيص نسبة من أرباحها لمناطق الإنتاج، كما دعا وزارة المعادن لمساعدة الولاية في الاستخلاص الآمن للذهب وتدريب العناصر المشتعلة بالتعدين. من جهته أوضح وزير المعادن أن وزارته تعمل على الحظر التدريجي لاستخدام الزئبق في استخلاص الذهب وصولاً لحظره بالكامل في 2020.