"أحمد المهدي" في حوار مع (المجهر) بمرور (52) عاماً على ثورة أكتوبر 1964م (2-2)
تقدم “سر الختم الخليفة” باستقالته للفوضى التي أعقبت تشكيل حكومته
علمنا شعوب المنطقة كيف بالوحدة الشعبية تغير نظاماً شمولياً
حوار – صلاح حبيب
{ كيف كان الجو وقتها وكيف كانت الحكومة؟
– الحكومة التي تشكلت لم تكن مقبولة، فكان من بين الوزراء “كلمنت أمبرو” وزيراً للخارجية، وهذا أحدث فوضى شديدة للمتمردين بالجنوب، لأن “كلمنت أمبرو” أطلق يد الثوار في الجنوب ومنع البوليس والجيش من التدخل، وأصبح الجنوب في حالة فوضى شديدة جداً وكان هناك ثمانية وزراء من جبهة الهيئات وكلهم يساريون.
{ هل تذكرهم؟
– أذكر “خلف الله بابكر”.
{ ماذا فعلتم بعد موافقتكم على اختيار “سر الختم الخليفة” رئيساً للوزراء؟
– تشكلت الحكومة دون علمنا وجاء فيها اليساريون فاعترضنا على ذلك وظللنا نخاطب رئيس الوزراء بعدم استمرار تلك الحكومة.
{ كم الفترة التي قضتها الحكومة؟
– حوالي مائة يوم.
{ ما رد السيد “سر الختم” على اعتراضكم على الحكم؟
– رده أن الشارع هو الذي يحكمه، فوقتها الشيوعيون كانوا مسيطرين على الشارع وهم الذين يقودون المظاهرات ويسيرونها بطرقهم، فالحكومة كانت تعيش حالة فوضى.
{ في هذا الجو ما هو موقفكم كأحزاب؟
– قمنا بتنظيم مظاهرة طالبنا فيها بتغييرها.
{ من الذي قاد المظاهرة؟
– المظاهرة كان يقودها الأنصار والاتحاديون.
{ هل كان لك دور بارز في ذلك؟
– نعم كنت أعمل على حشد الجماهير ومخاطبتها وتحريكها إلى مجلس الوزراء، مطالبين بتغيير الحكومة، ووعد رئيس الوزراء بالتغيير، فتقدم باستقالته لمجلس السيادة المكونة من دكتور “عبد الحليم محمد” ودكتور “الباقر” و”شداد”، فالمجلس كان متفهماً التطورات الجارية فكلف رئيس الوزراء بتشكيل حكومة من الأحزاب، كل حزب من الأحزاب الكبيرة يكون نصيبه ثلاثة وزراء.
{ من هم وزراء حزب الأمة؟
– “محمد أحمد محجوب” والدكتور “محمد إبراهيم خليل” وشخصي، وتوليت منصب وزير الري والقوى الكهربائية، و”محجوب” وزير للخارجية و”محمد إبراهيم خليل” وزير الحكومة المحلية.
أما الحزب الاتحادي فكان “مبارك زروق” و”المرضي” و”نصر الدين السيد” و”ٍسيد أحمد عبد الهادي” وآخرون يمثلون حزب الشعب الديمقراطي، ودخل السيد “محمد صالح عمر” ممثل الإخوان و”أحمد سليمان” الحزب الشيوعي، فالحكومة التي تم تشكيلها كانت تمثل الشعب وانتهت جبهة الهيئات لأنها كانت نبتاً طفيلياً ولا تمثل القاعدة الشعبية.
{ ما هو أول عمل لحكومتكم؟
– حكومتنا استشعرت مسؤوليتها في تحقيق وإدارة انتخابات حرة ونزيهة وهذا كان همها الأول.
{ تشكلت حكومة بعد انتخابات 1965م، كم نصيب الدوائر التي حصل عليها حزب الأمة؟
– نال حزب الأمة (105) دوائر وشكل حكومة ائتلافية مع الحزب الاتحادي وعدل حزب الأمة الدستور وجعل أن يكون الرئيس دائماً بدلاً عن دوري، ولو لا الوفاق الذي تم بين حزب الأمة والاتحاديين لما تم ذلك وأصبح الزعيم “إسماعيل الأزهري” هو الرئيس، وكانت هناك محاولة لدمج حزب الأمة والاتحادي في حزب واحد من شدة التوافق بينهما، فالرئيس “إسماعيل الأزهري” لم يخالف حزب الأمة في أي شيء رغم بعض الحساسيات الصغيرة التي حدثت بينه و”المحجوب”، وهذه الحكومة الائتلافية بين الحزبين كانت من أقوى الحكومات وهي أشبه بحكومة “أزهري” الأولى.
{ ولكن ما هي أسباب انهيار حكومة الأزهري الأولى؟
– انهارت بسبب خلافات الاتحاديين، اختلفوا فيما بينهم، فالختمية “مرقوا” من الزعيم “إسماعيل الأزهري” و”السيد “علي” أصبح (براه)، فما استطاع “إسماعيل الأزهري” أن يستمر، أما الحكومة الثانية التي كان يرأسها “المحجوب” فسببها خلاف حزب الأمة وسقوط الحكومة القومية الأولى التي رأسها “الأزهري”، مما أضاع على السودان فرصة كبيرة لاستمرار حكومة قوية يتم الاتفاق عليها لاجتياز مرحلة الدستور واستقرار البلاد.
{ ما هي المهام الكبيرة التي قامت بها الحكومة وقتها؟
– لقد أعادت تلك الحكومة الأمن والاستقرار بالبلاد، وأحدثت تغييراً كبيراً في كل السياسات بالبلد، وحاولت الشروع في كتابة الدستور الذي يحتاج إلى درجة عالية من الوفاق والاتفاق، ولكن هذا للأسف لم يستمر، لأن السيد “الصادق” وبعض النواب طالبوا بتوليه رئاسة الوزراء، وهذا أحدث خلافاً داخل حزب الأمة.
{ ما حقيقة أن “الصادق المهدي” لم يكمل السن القانونية لتولي الرئاسة؟
– أبداً السيد “الصادق” أكمل السن القانونية ودخل البرلمان وكان نائباً، ولكن حزب الأمة كان متفقاً مع السيد “محمد أحمد محجوب” لتولي رئاسة الوزراء، ولكن انقسموا لأن رئيس الحزب يريد أن يجمع بين رئاسة الوزراء والحزب، وهذا أحدث الخلاف داخل حزب الأمة، وهذا الخلاف استغله الاتحاديون ووقفوا إلى جانب رئيس الحزب “الصادق المهدي” (فسقَّطوا) “المحجوب”، ووقفوا مرة أخرى مع “المحجوب” وسقَّطوا “الصادق”، فالاتحاديون لعبوا فهلوة سياسية، فعندما جاءوا بـ”المحجوب” لم يكن “المحجوب” وقتها صاحب أغلبية، فأصبحت الغلبة لهم ولكنهم جاملوه.
{ كيف؟
– حزب الأمة في حكومة “المحجوب” الأولى كانت دوائره (105)، بينما عدد دوائر الاتحاديين ستين دائرة، ولذلك كانت الغلبة لحزب الأمة وقتها، ولكن عندما وقفوا إلى جانب “الصادق” و”الصادق” كانت لديه ستين دائرة والاتحاديون ستين دائرة أصبحت حصتهم أكبر فكونوا حكومة “الصادق”، وعندما انسحبوا منه سقط فأتلفوا مع حزب الأمة جناح الهادي، فجاءوا بـ”المحجوب” وهذا هو الذي هزّ النظام الديمقراطي وخلق عدم استقرار وشجع العسكر مع اليساريين لانقلاب مايو 1969.
{ ما هو السبب الذي أدى إلى فشل الديمقراطيات السابقة؟
– أسباب فشل الديمقراطيات السابقة هذه الصراعات التي خلقت عدم استقرار في الحكم، والجيش دائماً يطمع في السلطة في مثل هذه الحالات، والخلافات داخل الأحزاب الكبيرة كانت واحدة من تلك الأسباب، فحزب الأمة بشقيه كانوا في خلاف، و”المحجوب” لم يرضَ عن الزعيم “الأزهري”، لأن “الأزهري” بدأ يتصرف باعتباره هو رئيس الحكومة، ولذلك تتغير الحكومات في أوقات قصيرة والاتفاقات بين الأحزاب كانت هشة.
{ هل تعتقد أن الحياة بعد ثورة أكتوبر كانت رغدة؟
– لم يكن هناك وقت كافٍ للإصلاح الاقتصادي حتى يؤثر على حياة الناس، فالحكومة وقتها كانت مشغولة بأشياء كثيرة، منها الأمن الذي كان يتطلب صرفاً كبيراً في الجنوب لإحداث الاستقرار بعد الربكة التي حدثت في أكتوبر، ولكن كان هناك أمل كبير في الإصلاح الاقتصادي، لأن الجميع كانوا متطلعين ومتفائلين بأن التغيير سوف يحدث نوعاً من الاستقرار الاقتصادي في حياة المواطنين.
{ كيف كانت علاقاتكم مع دول الجوار وقتها؟
– حكومة الرئيس “محمد أحمد محجوب” من أولى الخطوات التي قامت بها إرسال وفد صداقة إلى الدول الأفريقية، وكان هناك تحرك تجاه أثيوبيا وإلى كينيا وتنزانيا، وتحرك تجاه تشاد وليبيا، وتحسنت الأمور بين السودان ومصر بصورة كبيرة جداً وشاركت في وفد الصداقة المتجه لشرق أفريقيا، وكان ضمن هذا الوفد رئيس الوزراء “محمد أحمد محجوب” ونائب رئيس الحزب الاتحادي “محمد أحمد المرضي” و”محمد إبراهيم خليل بوزديو”، وكانت هنالك علاقة طيبة مع المملكة العربية السعودية، وعندما حدث الاعتداء الإسرائيلي على مصر تحرك السودان بصورة كبيرة لإصلاح الحال العربي بعد هزيمة مصر في 1967م، وقررت الحكومة قيام مؤتمر الخرطوم فأرسلت السيد “محمد أحمد محجوب” إلى الرئيس “عبد الناصر”، وهذا المؤتمر كان من أكبر الإنجازات التي تحققت في فترة الديمقراطية، حيث عمل على تجميع العرب وأطلق عليه مؤتمر اللاءات الثلاث.
{ كيف تم الترتيب لذلك؟.. وكيف تم الصلح بين الملك “فيصل” و”عبد الناصر” في ذلك المؤتمر؟
– الملك “فيصل” رحمة الله عليه، كان على صلة وثيقة ببيت “المهدي”، وعلى الرغم من خلافه مع “عبد الناصر” لكنه قبل بالخطة السودانية للصلح ولم شمل العرب، فأول اجتماع كان في بيت الرئيس “محجوب”، وأذكر عندما تحدث لنا “المحجوب” عن مقابلته بـ”عبد الناصر”، قال “عبد الناصر” كان في حالة من الانهيار وبكى في تلك اللحظة عندما قابل “المحجوب”، فقال له تجيني أنت يا “محجوب” وأنت حزب أمة، فأنتم الذين فكرتم في، فتأثر تأثيراً شديداً وقبل أي شرط يعرض من جانب السودان، وأذكر أيضاً أن “عبد الرحمن عبدون” عضو مجلس السيادة وقتها، حكى لنا أنه كان في اجتماع مغلق مع الرئيس الراحل “عبد الناصر”، وقال لهم لو لا ما قمتم به كنت على وشك التسليم لإسرائيل.
وأذكر أيضاً عندما قابلته في 1967م، ووقتها كنت وزيراً للدفاع والإعلام، وشاركت في مؤتمر وزراء الإعلام العرب الذي انعقد بالقاهرة آنذاك، وأجريّ لي ترتيب لمقابلة “عبد الناصر”، ونجحت في لقائه وجلست معه لما يقارب الساعتين، فتحدث معي عن دمار طيرانه وأشياء أخرى.
{ نعود لمؤتمر الخرطوم واللاءات الثلاث؟
– مؤتمر الخرطوم رفع معنويات “عبد الناصر” ودعمه دعماً مالياً سخياً.
{ ولكن رغم ذلك العلاقات بين البلدين ظلت في حالة توتر؟
– لأنه كان هناك عدم وفاء، فـ”عبد الناصر” رغم الدعم الذي قدمه له الحكم الديمقراطي، إلا أنه قام بتأييد الانقلاب المايوي، و”المحجوب” كان “زعلان” جداً من “عبد الناصر”، وعندما زار السودان بدعوة من النظام المايوي كان “خجلان” جداً، إلا أنه طلب زيارة قبر السيد “علي” وقبة “المهدي” و”الأزهري”.
{ ما حقيقة أن الرئيس “عبود” عندما شاهد المظاهرات من شرفة القصر قال كل الناس دي ما عايزني فقرر تسليم السلطة؟
– وارد أن يفعل “عبود” ذلك، ولكن “عبود” اشترط السلامة والأمن له ولمجلسه، فنحن أوفينا له بهذا الشرط وأنا أول مهمة لي كوزير داخلية حماية المجلس العسكري الذي أدخل سجن كوبر.
{ كيف وفرت له الحماية؟
– أعددت طائرة خاصة نقلتهم إلى سجن زالنجي، فأبعدتهم من خطورة المظاهرات والناخبين وأصحاب الثأرات، ووفاءً لهم بعدم محاكمتهم أبعدناهم من العاصمة.
{ ما هو الدرس الذي استفدتم منه من ثورة أكتوبر؟
– عندما تتحد الأمة وقياداتها يسهل علاج مشاكلها.
{ هل أكتوبر ربيع عربي متقدم؟
– نحن علمنا شعوب المنطقة كيف الوحدة الشعبية تستطيع أن تغير نظاماً شمولياً دون إراقة دماء وصراعات، فالربيع العربي الذي حدث بالمنطقة فيه صراعات دموية، فنحن لا نشبه الربيع العربي في شيء لأن صراعنا لم يكن دموياً، بل كان حضارياً، وهذا الدرس الذي يمكن أن نقدمه للشعوب العربية.