(أكتوبر) على موعد مع صناعة التاريخ.. فهل تطوي البلاد صفحة (الانتفاضات)؟
ما بين ثورة (64) وحوار (2016)
الخرطوم- عقيل أحمد ناعم
لعلها أقدار التاريخ هي ما جعلت (أكتوبر 1964) شهر الثورة الأبرز في تاريخ السودان، التي استحالت رمزاً لانتصار إرادة الشعب على الطغيان، هو ذات الشهر الذي تخرج فيه الجموع إلى الشوارع والساحات في 2016، لكن هذه المرة كان الخروج مختلفاً، فلم يكن النشيد ذاك الذي يمجد الثورة والثوار ولا صوت الشارع هو ما تغنى له الشعراء:
“جانا هتاف من عند الشارع
قسماً.. قسماً لن ننهار
طريق الثورة هدى الأحرار
والشارع ثار وغضب الأمة اتمدد نار
والكل يا وطني حشود ثوار”
فالشارع خرج اليوم لا ثائراً ولا غاضباً على نظام يحكمه، بل خرج مسانداً ومؤيداً لخطوة ابتدرها ذات النظام، واكتملت في العاشر من أكتوبر وهي (الحوار الوطني) مع بعض الأحزاب والقوى السياسية المعارضة والموالية.
لكن هل (أكتوبر الحوار) قادر على طي صفحات التاريخ وتجاوز (أكتوبر الثورة) إلى غير رجعة، وعلى التأسيس لدولة القانون والتوافق والاستقرار والسلام؟ أم أن نار الثورة ما زالت متقدة تحت رماد (الحوار) في انتظار اكتمال أشراطها؟؟
{ احتقان مشابه وردة فعل مختلفة
كثيرون يرون أن حالة الاحتقان السياسي المحيطة بـ(الأكتوبرين) متشابهة لحدٍ كبير، خاصة وأن قضية الجنوب التي أشعلت ثورة الستينيات خلفت لها بديلاً قبل مغادرة الجنوب جغرافيا وتاريخ السودان، هي (قضيتا المنطقتين ودارفور)، الأمر الذي قد يدفع إلى التوقع بتكرار تجربة الثورة، لكن ثمة إجماعاً على اختلاف نظامي الحكم، بل ومعارضاتهما، بجانب اختلاف الظرف السياسي المحلي والإقليمي الذي أنتج (21 أكتوبر) عن الظرف الذي تعيشه البلاد الآن وانتهى إلى إجازة مخرجات (الحوار الوطني) في (10 أكتوبر) الحالي.
لكن يظل العامل الأهم في استبعاد استنساخ الثورات الشعبية في نظر غالب المتتبعين لتاريخ السودان الحديث هو غياب أو (تغييب) النقابات ودورها في تريحك الشعب وقواه الحية القادرة على إحداث التغيير، وهو ما أكده الباحث في التاريخ السياسي والقيادي المعارض د. “إبراهيم الأمين” بقوله لـ(المجهر): (هناك فرق كبير بين البيئتين، ففي أكتوبر 64 كان العالم كله من فرنسا وحتى شرق آسيا يعج بالثورات وكان للسودانيين دور بارز في قيادة حراك شعبي بدوافع وطنية ورفض تام للحكم العسكري)، لكنه يرى أن ما يحدث الآن أسوأ من ما كان حادثاً أيام الرئيس الأسبق “إبراهيم عبود”، إلا أنه بالمقابل يلفت الانتباه إلى اختلاف جوهري في المعطيات التي يمكن أن تشعل الثورة قائلاً: (حدث تغير كبير، فحكومة الإنقاذ استفادت من ما حدث في ثورتي أكتوبر وأبريل فعملت بكل جهدها لإنهاء الحركة النقابية التي كان لها الدور الأبرز في تفجير الثورتين باستحداثها لنقابة المنشأة وحولتها لأذرع للنظام)، وأشار إلى عامل آخر بالغ التأثير يتمثل في ما يرى أنه (اختراق) الإنقاذ للأحزاب وتفتيتها. ويرى د. “الأمين” أن التراجع الكبير في المنطقة وهيمنة الأنظمة الحاكمة وارتهان مواقفها بقوى أجنبية دفع البعض للاعتقاد في الحوار واللجوء إليه.
{ ما بين الحوار والمائدة المستديرة وانعدام الوفاق
بالمقابل هناك من يرى وجود بعض التقارب والتشابه بين الأوضاع في أكتوبر الستينيات وأكتوبر الحالي، في كون الحدثين (الثورة والحوار) تزامنا مع حكم عسكري قابض ويهدفان كلٌ بوسائله المختلفة إلى إحداث تغيير حقيقي في بنية النظام وكيفية الحكم ما بين التغيير الثوري والتغيير الناعم.. ويحاول الدكتور “محمد الأمين خليفة” عضو الأمانة العامة لحزب المؤتمر الشعبي المعارض ورئيس لجنة السلام بمؤتمر الحوار الوطني الإشارة إلى مقاربات بين الفترتين والبيئتين، لافتاً إلى أن ثورة أكتوبر جاءت برياح الحرية عقب حكم عسكري، في حين أن أكتوبر الحالي عاشت خلاله البلاد إجازة مخرجات لحوار وطني يهدف لإتاحة حريات حقيقية بعد قبضة وتضييق، وأشار إلى أن القوى المتحاورة والشعب في انتظار تحول هذه المخرجات إلى دستوريات ووثيقة دستورية حاكمة.
ويرى “خليفة” أن هناك تشابهاً ومشتركات بين حقبة الثورة وحقبة الحوار، متمثلة في انعقاد حوار بين القوى السياسية بعد أكتوبر 64 عُرف بـ(مؤتمر المائدة المستديرة) مشابه للحوار الوطني الحالي، وقال: (كان هناك حوار بعد ثورة أكتوبر ولو تم تطبيق مخرجات ذلك الحوار تطبيقاً صحيحاً لما وصلنا إلى هذه الدوامة التي نعيشها الآن)، وأوضح أن هناك شيئاً من التناسخ بين (الحوار الوطني الحالي) وبين (المائدة المستديرة) لم يصل حد التطابق، لكنه أكد عدم وصول البلاد للهدف المرجو المتمثل في (الوفاق الوطني)، وقال: (الآن هناك ثلاث معارضات، واحدة محاورة وأخرى صامتة وثالثة حاملة للسلاح، لذلك ما زلنا بعيدين جداً عن الوفاق الوطني). وأكد “خليفة” أن واحداً من معوقات تحقق الوفاق الوطني الصعوبة التي ستصاحب تكوين الحكومة الجديدة ما بعد الحوار في ظل وجود معارضة حاملة للسلاح وأخرى مقاطعة للحوار، لكنه أشار إلى أنه في حال تكونت الحكومة الجديدة فستكون سلسة وممتلكة لخارطة طريق وبرنامج واضح للحكم بخلاف حكومة ما بعد ثورة أكتوبر التي قال إنها لم تكن مصحوبة بأهداف وبرنامج موحد.. واختتم حديثه بتساؤل: لكن كيف يستطيع “البشير” تكوين الحكومة من بين كل هذه المكونات؟؟
{ هل ما زالت السماء ملبدة بـ(الانتفاضات)؟
يظل السؤال المهم قائماً: هل يجبّ (حوار أكتوبر) (ثورة أكتوبر) وأخواتها ويجعلها مجرد ذكريات للاحتفاء وليس للتكرار؟ الخبير والمحلل السياسي وأستاذ العلوم السياسية بروفيسور “الطيب زين العابدين” يبدأ إجابته بالإشارة إلى أن اختتام أعمال الحوار الوطني في (أكتوبر) الشهر الذي أنجز فيه الشعب واحدة من أعظم الثورات فأل خير ينبغي أن يشجع النخب السياسية على تلمس وتحقيق أهداف الثورة، لكنه بالمقابل شدد على أن ما أنجزه الحوار الوطني لا يتعدى (20%) وأنه لم يصل مرحلة النجاح بسبب غياب قوى مدنية ومسلحة مؤثرة عنه، بجانب تأكيده على أن المحك الأساسي في تنفيذ ما تم التوافق عليه، وقال: (الاختلافات الحقيقية بين النخب ليس في المبادئ ولا القيم العامة ولا التنظير، ولكن الاختلاف في التنفيذ بدليل أن غالب القوى ترى أن دستور 2005 جيد)، وأضاف: (ما نتج عن الحوار بداية وليس نهاية).. كل هذه المعطيات دفعت بروف “زين العابدين” للتأكيد أنه في حال استمر الحال على ما هو عليه الآن فستكون الانتفاضات والثورات الشبيهة واردة جداً.
ذات النتيجة أقرها د. “محمد الأمين خليفة”، مؤكداً أن استبعاد حدوث ثورات مرتبط بشكل وثيق بتنفيذ مخرجات الحوار، وقال: (التنفيذ هو الدواء الشافي للثورات والانقلابات والمعارضات)، وأضاف: (متى ما كان هناك تنفيذ جاد وذكي فلن تكون هناك رغبات عارمة لانتفاضات)، وأكد أنه في حال عدم تنفيذ المخرجات وغياب الروح الوطنية فإن السودان (لن يكون في منجى من انتفاضة شعبية جديدة).
من جهته، لم يبتعد د. “إبراهيم الأمين” في خط استبعاد اندلاع ثورات شعبية رغم رجاءات وآمال أهل الحوار، وقال: (الحوار اختبار حقيقي للمؤتمر الوطني، فما لم يخاطب القضايا الحقيقية للوطن وبالأخص مناطق الهامش، فسيكون الباب مفتوحاً لهبات وثورات شعبية على شاكلة أكتوبر وأبريل).
ما بين أكتوبر الثائر وأكتوبر المحاور، تتمدد الآمال والتوقعات في أن يتجاوز قطار الوطن محطة الثورة والانتفاضة إلى رحاب التوافق الوطني المفضي إلى بناء دولة السلام والاستقرار والرفاه، لتنسدل القيود والإحباطات والفشل المتطاول (جدلة عرس في الأيادي).