حوارات

الإمام "أحمد المهدي" في حوار مع (المجهر) حول مرور (52) عاماً على أحداث أكتوبر 1964م (1-2)

قبل ثورة أكتوبر البلاد كانت تعاني من نظام شمولي وصل مرحلة الإفلاس
تضامنت الأحزاب السياسية في تنظيم واحد لمواجهة النظام العسكري
قدمت مذكرة من كل الأحزاب تطالب الجيش بالعودة للثكنات
حوار – صلاح حبيب
تمر الذكرى الثانية والخمسون لثورة أكتوبر المجيدة 1964م والتي كانت أول حدث في المنطقة يعمل على إقامة انتفاضة شعبية تجبر الحكم العسكري القائم بالسودان على التراجع وتسليم السلطة إلى الشعب.
وبهذه المناسبة جلست (المجهر) مع الإمام “أحمد المهدي” أحد الذين كانوا شاهدين على تلك الأحداث ومؤثراً فيها.
أدرنا الحوار معه من الطابق الثاني بمنزله بأم درمان وتناولنا كيف كان الوضع السياسي من قبل الثورة وما هو دور الأحزاب في عملية التغيير، ما حقيقة الدور الذي قام به الإخوان المسلمون وهل خطبة الدكتور “الترابي” بجامعة الخرطوم كانت الشرارة الأولى لاندلاع تلك الثورة؟ ما هو موقف المجلس العسكري؟ ومن هم الضباط الذين جلسوا مع القيادات الحزبية؟ وكيف كانت عملية التسليم؟ وما هو موقف “الطاهر عبد الرحمن المقبول” المكلف بعملية التسليم؟ وماذا قال للإمام “أحمد” عند الثانية صباحاً؟ وماذا قال الإمام “أحمد” للسيد “الصادق” عندما فشلوا في اختيار رئيس الوزراء؟ نترك القارئ مع الجزء الأول من حوارنا مع الإمام “أحمد المهدي” فكيف جاءت إجاباته حول ما طرحنا عليه من أسئلة.
{ السيد الإمام وأنت شاهد عصر على ثورة أكتوبر 1964 كيف كانت الأوضاع السياسية قبل قيام الثورة؟
_ رحب السيد الإمام أولاً بزيارة (المجهر) له وحيا الشعب السوداني الأبي في هذا اليوم العظيم على السودان، لأن أكتوبر معلم كبير ومعلم من معالم السياسة في السودان، فالوضع حقيقة في نهاية سبتمبر 1964م كان هناك نظام عسكري شمولي ووصل إلى مرحلة الإفلاس والبلاد كانت تعاني من مشاكل كثيرة جداً، ولكن الشيء العظيم وقتها انتظام الشعب في تكوينات لها قيادات وهذه القيادات كانت تمثل بحق الشعب السوداني.. فكانت الأحزاب قائمة كما هي رغم أن الحكم العسكري حلها ولكن لم يستطع أن ينهي وجودها الشعبي ولم يستطع أن ينهي قياداتها.
{ ما هي الأحزاب التي كانت موجودة وقتها؟
– كان هناك حزب الأمة قوي ومتماسك ومن خلفه تنظيمات الأنصار وكان هناك الحزب الوطني الاتحادي بشكل قوي والذي يتزعمه الزعيم “إسماعيل الأزهري”، فالحزب الوطني الاتحادي كان متماسكاً وقوياً ضد الحكم العسكري، وكانوا على وحدة مع حزب الأمة وكانت هناك الجبهة الوطنية التي تضم الإسلاميين واليساريين، بالإضافة إلى كل طموحات شعبنا الأبي.
{ من الذي كان يرأس الجبهة الوطنية وقتها؟
_ الجبهة الوطنية كانت برئاسة الإمام “الصديق” والجبهة الوطنية كانت تناقش قضية الحزب الواحد بمعنى أن يتم تكوين حزب واحد من الجبهة الوطنية ليكون متضامناً خاصة الاتحاديين والاستقلاليين الذين كان من المؤمل أن يندمجوا في تنظيم واحد لمواجهة الحكم العسكري، وإنشاء قيادة قوية تسير البلاد إلى الإمام في نظام ديمقراطي، وكان الحرص والإصرار على الديمقراطية رمزاً للجبهة الوطنية.. وكان الاتحاديون يقولون أحياناً لماذا نحن نناقش الحزب الواحد لماذا لا نكون نحن الاتحاديين أنصاراً لكل الأمة وهذا حديث قاله السيد “محمد أحمد المرضي” نائب رئيس الحزب الاتحادي رحمه الله، وتوصلت تلك القيادات إلى هذا المستوى من الوحدة الوطنية.
{ ماذا فعلت تلك القيادات مع الحكم العسكري؟
_ لقد خاطبت تلك القيادات الحكم العسكري وأصدرت ما يسمى بمذكرة الجيش ووقع عليها الإمام “الصديق” والسيد “إسماعيل الأزهري” وكل القيادات السياسية المعارضة.
{ ماذا قالت المذكرة وماذا حدث؟
_ المذكرة تقول للجيش عُد إلى ثكناتك فقد انتهت مهمتك وحقيقة أن تأييد الإمام “عبد الرحمن المهدي” للجيش السوداني في انقلاب الرئيس “عبود” كان مشروطاً ومضمناً في منشور يقول: لقد قطع الجيش على نفسه وعداً بإعادة الحياة الديمقراطية للبلاد وعندما تعود الحياة النيابية سنرجع لإكمال البناء الذي بدأناه، وهذا كان خطاباً للإمام “عبد الرحمن” للنواب، حينما قال لهم الجيش قام بانقلاب لإنقاذ الوضع السياسي لعدة أسباب ونحن قررنا هذا الانقلاب لإنقاذ السيادة واستقلال السودان، ولذلك أيدناه بشرط والجيش كان بداخله عدة انقلابات. وأذكر أن الرئيس “عبد الناصر” وقتها كان يريد أن يحدث انقلاب في السودان وفي ليبيا.
{ لماذا؟
_ السبب أن السودان وليبيا تعتبر مناطق نفوذ بالنسبة له والسودان بالنسبة له كان خطراً بسبب الحريات المتوفرة فيه، إضافة إلى أن الرئيس “عبد الناصر” كان يريد أن يعيد الوحدة بين السودان ومصر وليبيا، فطموحات الرئيس “عبد الناصر” مع الأسف الشديد ومحاولاته في الانقلابات العسكرية هي التي شجعت الضباط الكبار لتأمين البلاد وللأسف الأحزاب السياسية كانت مختلفة اختلافاً شديداً ولم يتمكنوا من تقديم حكومة تلم شملهم، ولذلك قام الجيش بالانقلاب في 1958م فأدرك الإمام “عبد الرحمن” الموقف، وقالوا في منشورهم إن وزراء حزب الأمة قبل الانقلاب تقدموا باستقالاتهم لرئيس الوزراء حتى يمنح فرصة للم الشمل.
{  هل كنت وزيراً ضمن الوزراء الذين تقدموا باستقالاتهم؟
_ وقتها لم أكن وزيراً بل كنت رئيس المنظمات الأنصارية وعضواً عاملاً في الحزب، وكنت فاعلاً جداً في التعبئة الشعبية ضد النظام العسكري، وهذه انطلقت من المذكرات التي تقدم بها الإمام “الصديق” والسياسيون لقيادات الجيش السوداني وكانت تطالب بأشياء معينة.
{ ما هي تلك المطالب؟
_ عودة الجيش إلى ثكناته، إعادة الحياة النيابية والديمقراطية وانسحاب الجيش كلياً من السياسة.
{ قبل قيام الثورة، هل كانت هنالك معاناة، وأزمات في السلع الضرورية؟
_ نعم كانت هنالك أزمات طاحنة وكان الجيش يقدر مطالب الجماهير ولم يتعداها وحدثت مفاوضات بين الإمام “الصديق” و”البحاري” و”المقبول”، فالشارع وقتها كان معبأ جداً للقيام بالثورة وحتى لا تحدث الهبة الشعبية وربما تكون فيها مخاطر على الجماهير حدث الإضراب السياسي.
{ هل الخطاب أو الندوة التي أقامها الراحل الدكتور “الترابي” كانت شرارة الثورة؟
_ الإضراب السياسي هو الذي مكن من انهيار المجلس العسكري لنظام “عبود” وليس كان بالضرورة تلك الندوة، فكانت هناك حركة سياسية معبأة في بقاع السودان وكان للإمام “عبد الرحمن” مناديب في أقاليم البلاد يهيئون الجو.
{ هل كنت واحداً من أولئك المناديب وفي أي المناطق كنت تعمل؟
_ نعم وكنت أعمل في دارفور واصطدمت صداماً خطيراً جداً مع قيادات الجيش.
{ هل تذكر أحداً من تلك القيادات؟
_ كان اللواء “حمد النيل ضيف الله” ومدير المديرية “أحمد مكي عبده”، وتمكنا بحصافة شديدة من تجنب الصدام بالجيش ووقتها كانت هناك تعبئة في كردفان والنيل الأزرق والنيل الأبيض، وكانت تلك التعبئة أكدت للرئيس “عبود” ألا مجال لمقاومتها ولذلك انهار النظام وقتها، وقبل تسليم السلطة وأرسل ضباطاً للتفاوض مع المعارضة.
{ هل تذكر أولئكم الضباط؟
_ كان من بينهم “عبد الرحمن صغير” و”الطاهر المقبول” واستقبلهم الإمام “عبد الرحمن” بطمأنينة شديدة.
{ ما الذي جعل الجيش يجري التفاوض؟
_ عندما أحس بالمظاهرات المتسعة والإضراب السياسي الشامل وتحرك الطلاب وقتل “القرشي” هيج الجماهير أكثر لقيام الثورة، فأعلن الجيش أنه على استعداد لتسليم السلطة وأرسل إلى الجبهة الوطنية التي كانت بقيادة الإمام “الهادي” آنذاك الذي خلف الإمام “الصديق”، وكان مع الإمام “الهادي” وقتها الزعيم “إسماعيل الأزهري” وبدأت عمليات التفاوض لتسليم السلطة، فالجبهة الوطنية كونت لجنة من خمسة أعضاء لمفاوضة الجيش لتسليم السلطة وظللنا نعقد اجتماعات في الرئاسة.
{ هل تذكر الخمسة؟
_ من بينهم السيد “الصادق المهدي” رئيس حزب الأمة والزعيم “إسماعيل الأزهري” رئيس الحزب الاتحادي و”أحمد سليمان” من الشيوعيين و”الرشيد الطاهر” من الإخوان.
{ وأين كان موقعكم من الخمسة؟
_ نحن كنا معهم في اجتماعات الرئاسة وبدأت عملية التفاوض لتسليم السلطة ورأس الاجتماع من الجانب العسكري “الطاهر المقبول” و”الباقر أحمد” و”مزمل غندور”، ومجموعة من الضباط تم تكليفهم من الجيش لتسليم السلطة. والأمور سارت بصورة حضارية جداً ولكن العقبة الوحيدة في ذلك كانت كيفية اختيار رئيس الوزراء. وأذكر أن اليساريين كانوا قد انتظموا في هيئة تسمى جبهة الهيئات وتولت هذه الجبهة من بعد الخدمة المدنية كلها.
{ من هم أعضاء تلك الجبهة؟
– كان من بينهم “بابكر عوض الله”.
{ كيف كان الوضع قبل التسليم ويقال إن هناك ليلة المتاريس بوصفك شاهداً على ذلك صف لنا الوضع في تلك الليلة؟
_ أقول لك كلاماً مهماً جداً في آخر اجتماعات اللجنة المكونة للتفاوض مع الجيش لتسليم السلطة وقتها كل القيادات كانت موجودة، السياسيون كانوا موجودين وكانت المسألة متوقفة على اختيار شخص يكون رئيساً للوزراء، فالأحزاب كان لها ناسها فتقدمت جبهة الهيئات بقائمة تضم ثمانية أشخاص.
{ من هم؟
_ كان من بينهم “بابكر عوض الله” و”إسماعيل” المحامي وآخر شخص في تلك القائمة كان “سر الختم الخليفة” ومعظم الأسماء كانت يسارية ولذلك رفضتها الأحزاب، ولكن كان هناك وقت محدد للاختيار، لأن الساعة قد قاربت الثانية صباحاً فخرج “الطاهر  عبد الرحمن المقبول” من المجلس وكان هو رئيس الجلسة، وعندما خرج جاءني أحد الضباط همس في أذني قال لي “الطاهر” عايزك بره يا سيد، انسحبت من الجلسة وخرجت ذهبت إليه ووجدته (متكل) على درابزين السطوح.
{ أين كان الاجتماع؟
_ في قيادة الجيش
{ وماذا قال لك عندما قابلته؟
_ قال لي إذا الشمس دي مرقت وما اتفقتم على رئيس الوزارة نحن البدل العسكرية دي (بنملصها).
{ والسبب؟
قال الجيش ما قادر يحتمل الفوضى الحاصلة لأن المظاهرات كانت يومياً وكانت هناك مناوشات بين المواطنين وقائدي الدبابات والضباط في حالة صمت ولم يستطيعوا عمل أي شيء، لأن التعليمات لم تصدر لهم باتخاذ أي إجراء إضافة إلى أن هناك ململة من صغار الضباط تحاول إحداث انقلاب، ولذلك كبار الضباط كانوا يشعرون بخطورة الوضع وربما يفلت من اليد وتحدث إراقة للدماء  وفوضى أكبر، ولذلك طلب مني الإسراع في اختيار رئيس الوزراء قبل أن تحدث كارثة فأسرعت في طلب “الصادق المهدي” فقلت له (أسمع كلام “الطاهر المقبول”)، ولكن السيد “الصادق” قال له لكن الجماعة ديل قدموا أسماء غير مقبولة، وأذكر وقتها أن هناك إجماعاً كان على “سر الختم الخليفة” ووقتها “سر الختم” كان قد تزوج شقيقة  السيدة “سارة” زوجة السيد “الصادق” ولم يمضِ على زواجه أكثر من شهرين، فاتفقنا أنا والسيد “الصادق” أن نقبل فوراً بالسيد “سر الختم الخليفة” فتشاورنا مع الاتحاديين فقبلوا.
{ ما هو دور الإخوان وقتها؟
_ الإخوان ليس لهم دور آنذاك ولكن كانوا مع حزب الأمة قلباً وغالباً ولم يكن لهم وجود وقتها، فالساحة الطلابية والشبابية كان يحتلها الشيوعيون.
{ ولكن يقال إن دورهم كان كبيراً في ذلك؟
_ أبداً كانت خطبة “الترابي” فقط ولذلك الدور الكبير كان لحزب الأمة بالاتفاق مع الاتحاديين، فتم الاتفاق على رئيس الوزراء وتنفس العساكر الصعداء، لأن هذا الاختيار سيعيدهم إلا الثكنات وستهدأ فورة صغار الضباط لأن الحكومة القادمة ستضبط الأمور.

 

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية