* "وداي رساي" .. منطقة خارج الشبكة، تنتظر شركات الاتصال لتخرجها من العزلة
* هناك مدرسة واحدة بلا تلاميذ، لعدم وجود معلمين أصلاً، ومركز صحي بدون أطباء!
* شيخ محمود على :نرفض تعليم البنات واختلاط الجنسين !
العريس ملزم بالحصول على موافقة كل أفراد أسرة العروس ، ولن يستطيع شرب القهوة معهم إلا بعد عام من الزواج !
رساي ـــ محمد جمال قندول
تبعد قرية “رساي” التابعة لمحلية همشكوريب حوالي (350) كيلو متراً من عاصمة ولاية كسلا بزمن يقدر بـ(3) ساعات، ورغم أنها من المحليات الغنية والواعدة بإنتاج الذهب، حيث تجري هنالك عمليات تنقيب عن الذهب بصورة أهلية ومقننة، إلا أنها فقيرة جداً في الخدمات خاصة التعليم والصحة والاتصالات. وفي “وداي رساي” كما يطلق عليها أهلها تقطن قبائل الهدندوة والبني عامر بأفرعها المختلفة منتشرين حولها، ويعيش إنسان المنطقة هنالك في جهل بأبسط الأشياء، حيث هنالك مواطنون لا يعرفون حتى كسلا ذاتها.
(1)
زرنا مدينة “رساي” بصحبة المركز القومي لمكافحة الألغام وقضينا فيها ليلة كاملة وانطلقنا حوالي الساعة الرابعة عصراً من كسلا فوصلنا في الثامنة مساءً، الظلام كان سيد الموقف لا كهرباء ولا شبكة للاتصالات ولا مستشفيات ولا تعليم، مدرسة واحدة فقط ملحقة بميز معلمين ،ولكنها خالية من التلاميذ والمعملين. ثمة أشياء كثيرة تتبادر إلى ذهنك عندما ترى حال هذه القرية أولها ماموقع هذه المنطقة من نشاط صندوق إعمار الشرق؟ وأين مساعد رئيس الجمهورية وممثل جبهة الشرق “موسى محمد أحمد” مما يجري؟، وأين المنح والامتيازات والأموال التي يتردد ً بأنها تذهب إلى جبهة الشرق.
(2)
بغير التعليم هنالك قبائل الجميلاب والبتاي والتكرايا وغيرها من القبائل التي تقطن هذه المنطقة وتمنع المرأة من حقوقها، وأبسطها المتمثلة في التعليم، فهم لا زالوا يؤمنون بأن النساء خلقن فقط للمنزل.
حتى الزواج هنالك له عادات وطقوس يشيب لها الرأس ويصيبك الذهول وأنت تطلع عليها ولعل أبرزها أن العريس يرى زوجته لأول مرة بعد عقد القران، وتبدأ تفاصيل الزواج لهذه القبائل بأن يتقدم الرجل للمرأة ويأخذ موافقة أشقائها وأعمامها وأخوالها كل على حدة، فتارة قد يضطر لقطع الآلاف من الكيلومترات ليذهب إلى أب أو شقيق أو عم أو خال ليحصل على موافقته، ومن ثم يقدم مهراً عبارة عن بهائم بحسب الاتفاق بين أهل العريس والعروس ،وعقب زواجها مباشرة يذهب الرجل لزوجته بعد العاشرة مساءً، ويخرج منها حوالي الخامسة صباحاً، بالإضافة إلى انقسام الرجال والنساء بحيث لا يوجد اختلاط إطلاقاً، فهنالك شباب الحي يكادون لا يعرفون ملامح فتيات الحي ، حتى لو كانوا أقارب من الدرجة الأولى.
هذه القبائل تعتمد اعتماداً كلياً على الزراعة في دلتا القاش أو قطع السعف والتجارة فيه، خاصة وأنه مستخدم في تنجيد السراير و”الفرشات” وتسوير المنازل.
()
وأبرز القبائل التي تقطن بوداي رساي هم الجميلاب وشراب والكميلاب والبني عامر والنبتاب والاماسا وتاما والهوسا والبرنو والهبانيين والنوراب، بتعدادات مختلفة تتراوح ما بين (1000) لـ (1500) نسمة لكل قرية.
يخرج الرجال في هذه القرى منذ الصباح الباكر فهم لا يختلطون بالنساء إطلاقاً لدرجة وجود قرى يكون أحياؤها مقسمة بحيث يكون الرجال في حي والنساء في حي آخر ، ويعتمد رجالها كلياً على تجارة البهائم أو الزراعة أو العمل في قطع السعف ويتميزون بالانطوائية، فهم لا يحبذون الخروج من القرى، بينما انعدام الخدمات الاساسية يشكل مشكلة حقيقية لسكانها ولعل واحدة من أبرز الأشياء التي طالبوا بها أثناء حديثهم لــ(المجهر)، بأن تتحرك شركات الاتصالات لإنشاء شبكات ليتمكنوا من التواصل مع العالم الخارجي، بحسب وصفهم.
(3)
الشيخ “محمود علي” من أعيان قبيلة الجميلاب قال لــ(المجهر) بأنهم نشأوا في هذه المنطقة “وداي رساي” مثلما نشأ فيها أجدادهم، وليس لديهم مجالات للعمل واسعة بخلاف الزراعة أو رعي البهائم. وواصل حديثه قائلا بأن وداي رساي” منطقة تفتقر لأبسط مقومات الحياة.
واضاف بأن العادات الموجودة قد وجدوا عليها آباءهم وأجدادهم ولا يستطيعون تغييرها ،لأنها بحسب وجهة نظره (تجري في دمائهم)، وواصل حديثه قائلا : نحن نرفض تعليم البنات والاختلاط. واردف متسائلاً: “ليه الأولاد والبنات يشوفوا بعض، أصلاً؟ “.
ثمة أكثر العادات إثارة للجدل هي الزواج. وعنها يقول “محمود” بأن فكرة الزواج صعبة جداً لقبائل هذه المنطقة، حيث يحتاج العريس لموافقة جميع أفراد الأسرة من الأب والأخ والأعمام والأخوال، وإذا رفض واحد ينتهي الأمر بالفشل ويجب أن يصل العريس كل هذه الأفرع المذكورة أعلاه ليضمن الزواج ومن ثم يقدم المهر، وهو عبارة عن بهائم ولا وجود للمال في التعاملات التي تخص الزيجات هنا.
وقال “محمود” بأن العريس ملزم بأن يأتي لمنزله بعد العاشرة مساءً ويخرج منه قبل شروق الشمس ، وذلك لمدة عام، ومن ثم بعد أعوام بإمكانه أن يشرب القهوة ويكون متواجداً مع أسرته في فترات الظهيرة والعصر.
ويسخر “محمود” من كمية المسؤولين الذين يزورون المنطقة ويوعدون أهلها بالخدمات ويختفون .ويقول: (في ناس كتار بجو هنا بقولوا إن شاء الله .إن شاء الله حنعمل ليكم مشروعات. وتاني ما بنشوفهم). ويضيف: لدينا مدرسة واحدة فقط وبلا تلاميذ أصلاً لأنها في الأصل خالية من المعلمين ، وأيضاً لدينا مركز صحي بلا أطباء، ولا نعرف لمن نشتكي وماذا نفعل، نعيش في ظروف بالغة السوء وحتى مياه الشرب نعتمد فيها على الجداول التي تمتلئ بمياه الأمطار
وعن واقع الخدمات رد علينا العم “محمود” بنبرة تشوبها السخرية ،بقوله: (هو عندنا خدمات، نحن لمن نحلم).
()
غير ان لمنطقة “رساي”، مشكلة اكثر خطورة ، تهدد حياة الافراد من سكانها ، وهي وجود الألغام بها مما جعل المواطنين يشعرون بالخوف .وباتت الكثير من المصالح معطلة، ولكن بفضل المركز القومي لمكافحة الألغام الذي نجح في تنظيف مساحات واسعة اصبح هنالك بعض الأمل.
ويحكي “علي تركاي”، قائلا: (حضرنا الحرب وها نحن الآن ندفع الثمن غالياً حيث لا وجود لخدمات ولا تعليم ولا ثقافة ولا صحة). وأردف بالقول: “موسى محمد أحمد” منذ أن أصبح مساعداً لرئيس الجمهورية، لم يسأل عنا ولا يعرف عن أحوال أهل الشرق أي شيء، نحن لا نعرف أين تذهب أموال صندوق دعم إعمار الشرق، ونتساءل لماذا لازالت محلية همشكوريب والمناطق المحيطة بها مهمشة كل هذا التهميش؟.
وأثنى “تركاي” على المركز القومي لمكافحة الألغام وما يبذله من جهود لعودة الاستقرار للمنطقة، من خلال نزع الألغام ليشعر الإنسان المهمش في هذه المنطقة بالأمان ويعود ليزرع بلا خوف ويعمل.
ويرى “تركاي” بأن ثقافة مناطقهم في حد ذاتها تشكل واحدة من أزمات هذه القبائل في طريق التقدم، وهم لا يريدون الخروج من هذه المناطق ليتعلموا، ولا يريدون الخروج من عباءة العادات والتقاليد السالبة التي أضرت بالمنطقة كثيراً وأقعدتها.