خمس سنوات مضت على رحيل العندليب
التجانى حاج موسى
حلت الذكرى الخامسة لرحيل الفنان “زيدان” – يرحمه الله رحمة واسعة – الزمن بقى ممحوق.. العام بيمر بنا كأنه أسبوع!! زمان الأعوام تمر ببطء شديد، لكنها تسرع هذه الأيام وكأنها تنذر بدونو القيامة.. الله يطيب العمل.
تفاصيل عديدة تتعلق برحيل صديقي “محمد إبراهيم زيدان”.. وهذا اسمه وفق أوراقه الرسمية.. و”زيدان” هو اسمه الفني الذي اختاره بعض كبار الموسيقيين الذين أجازوا صوته وحسناً فعلوا.. لأن لـ”زيدان” رنين وبريق واسم فني.. كثيراً أكتب عنه.. وبعض حديثي الذي أكتبه في هذا المقال ربما يكون قد قرأه البعض.. وإصراري على الكتابة عنه، مرده التوثيق لشخص عام رحل عن الدنيا.. والأمة الوفية هي من توثق لعظمائها.. لا سيما إذا كان الموثق له مطرب فنان مؤلف مثل العندليب السوداني.. ولقب العندليب الأسمر أطلقه عليه النقاد أسوة بالعندليب الراحل “عبد الحليم حافظ” الذي تربع على قمة الطرب العربي والمصري.. وأكتب عنه لأنه من أخذ بيدي في بدايات كتابتي للشعر الغنائي.. لذا وفاءً لذكراه.. أنثر هذه الحروف عفو الخاطر بلا ترتيب وقد تتناثر حروفي بلا ترتيب.. لأن ذكراه تزحم ذاكرتي ومخيلتي وأتمنى أن يقرأ ما أكتبه أبنائي وبناتي الذين واللائي يمتهنون الغناء في السودان ليتأملوا مسيرة مبدع سوداني ملأ الدنيا وخلد اسمه بفنه الراقي الذي قدمه في حقبة كادت تصل نصف قرن من الزمان.. أول آلة موسيقية اقتناها هي صفارة أبنوس أجاد عزفها وكانت لا تفارقه يعزف عليها شتى أنغام الأغنيات المحببة له وهو طفل في المرحلة الأولية بالدراسة.. في المرحلة الثانوية تعلم العزف على آلة العود على يد الصديق الأستاذ “صالح عركي” وهو من الدارسين الأفذاذ في الموسيقى.. حياته وصباه فقر مدقع ويتم مبكر.. كان وحيد والديه.. حدثني عن نسبه من جهة أمه أنها تنتمي لقبيلة التعايشة ووالدة جدته مصرية وجده لوالده من أصول جنوبية، والده تزوج من الحاجة “أم الحسين” وهي توأم لشقيقتها “أم الحسن” والتي لم تتزوج حتى رحيلها.. و”إبراهيم زيدان” كان يعمل موظفاً مرموقاً في وظيفة باشكاتب تنقل معه لعدة مدن بالسودان..
وكانت محطته الأخيرة مدينة ملكال التي توفاه الله بها وقبر هناك.. “زيدان” كثيراً ما زار قبر والده ويحمل ألبوم من الصور لوالده وقبره.. والدته من أشد المعجبين بصوته وتنبأت لوحيدها بأنه سيكون له شأن في الغناء السوداني.. وحينما خيره ناظر مدرسة أم درمان الثانوية بين الدراسة أو الغناء.. فاختار طريق الفن وقفت في صفه برغم أنه كان من الطلبة المبرزين بالدراسة.. من زملائه صديقي سعادة اللواء “الهادي بشرى” حدثني عنه حديثاً طيباً.. كثيراً ما كان يحدثني عن سنين حياته وأسرته وشظف العيش الذي كانوا يعيشونه.. حدثني أنهم سكنوا في غرفة مع بعض أقاربهم بحي العباسية وكانوا ينتظرون صينية الغداء بعد أن يتغدى الأقارب.. تبدل الحال قليلاً حينما اشتغلت والدته بمصنع الظهرة بأم درمان غرب إستاد الهلال، أذكر أننا زرنا والدته بذلك المصنع وشاركنا في احتفال أقامه العمال بالمصنع وقتها بدأ نجمه في السطوع.. طلب من والدته بحضوري ترك العمل بالمصنع بعد أن أصبح رب الأسرة وصار له دخل محترم من الحفلات التي كان يحييها.. فقد كان فناناً أحبته الجماهير ومن شدة الطلب على حفلاته كان مرهقاً نحيل الجسد وكثيراً ما يصاب بالملاريا واليرقان.. لم يكن محباً للطعام قليل الأكل وكان محباً لليل والسهر وكثيراً ما أقام الولائم لزملائه الموسيقيين حينما يجرون البروفات للأغنيات الجديدة.. لا يدخر المال وإن حصل عليه ينفقه للمحتاجين والفقراء في غير منٍ ولا أذى.. شهد له أصحاب الحاجات بعطائه.. حكيت قصتي معه حينما أراد أصحاب المنزل الذي كان يستأجره بالعباسية بيعه وطلبت مني والدته شراءه وكان يمتلك مالاً يمكن أن يشتري به أكثر من منزل، قال لي – البيت بيت الآخرة.. وحتى منزله الذي اقتناه بحي الشقلة بالحاج يوسف اشتراه صديقه الذي كان يعزف له آلة الأكورديون إنابة عنه، وكان منطقة عشوائية رحل فيه على مضض حينما اشترى أحدهم المنزل الذي كان يستأجره بالعباسية.. ونحمد لنائب الوالي – وقتها – سعادتو “يوسف عبد الفتاح” مساعدته في تسجيل منزل الحاج يوسف.. بعد رحيل والدته حزن حزناً شديداً وكان كثيراً ما يحدثني عن عزمه تسجيل منزله وقفاً لكني كنت أثنيه عن ذلك التصرف.. عقد قرانه مرتين وتزوج مرة لسنوات قليلة.. عشنا معه تجربة حب كبيرة لم تكلل بالنجاح.. فقد رفض أهل فتاته تزويجه منها.. والحادثة كانت سبباً في عدم رغبته في الزواج.. سعى مدة خمسة عشر عاماً لإجازة صوته بالإذاعة السودانية وكان ينصحه القائمون بأمر إجازة الأصوات بضرورة قيامه بالمزيد من التمارين.. ولم يثنه رفض لجنة الأصوات لإجازة صوته، فذهب والتحق بمعهد أنشأه الراحل الموسيقار “إسماعيل عبد المعين” بحي بانت.. وهناك تعلم النوتة الموسيقية وتدرب في علوم الصوت والإيقاع وبدأ تماريناً شاقة بالعزف على آلة العود حتى أجادها وبدأ يجرب صناعة الألحان الموسيقية ومن دواوين الشعر التي كان يقتنيها لحن أغنية (الوداع) للشاعر المصري د.”إبراهيم ناجي” تلك التي يقول مطلعها (داوي ناري والتياعي وتمهل في وداعي).. واختار من أحد دواوين الشاعر “نزار قباني” قصيدة (احترق الشوق) وعرج على المفكر العبقري “العقاد” قصيدة (كاد يمضي العام يا حلو التثني) وقضى سنوات من عمره مثابراً صابراً على مشروعه الإبداعي إلى أن أجازت الإذاعة صوته في ستينيات القرن الماضي.. وتدفقت الأغنيات نحوه وتسابق الشعراء في إهدائه أغنياتهم.. فكانت رائعة الشاعر “كباشي حسونة” (يا ما بقيت حيران) التي لحنها الموسيقار المبدع الراحل “أحمد زاهر” وأردفها برائعة الشاعر الراحل “محمد علي أبو قطاطي” (أكون فرحان يوم تكون جنبي) وهي أيضاً من ألحان “أحمد زاهر”.. ولحن لأستاذنا الشاعر “محمد يوسف موسى” (قلبك ليه تبدل) وأهداه الشاعر اللواء “عوض أحمد خليفة” من ألحان الراحل الرائد “الفاتح كسلاوي” (في بعدك يا غالي أضناني الألم).. وأهداه أيضاً من ألحان الموسيقار “عبد اللطيف خضر” أغنية (بالي مشغول يا حبيبي) وأهداه أستاذي الشاعر “مهدي محمد سعيد” – له الرحمة – أغنية (جميلٌ ما سألناه) وهي من ألحان الموسيقار الكبير “بشير عباس”.. وجاء الصديق “هلاوي” وهو تلميذ بالمرحلة الثانوية ليهديه (مين علمك يا فراش) و(عشان خاطر عيون حلوين) وعدداً من بواكير أشعاره ليلحنها “زيدان”.. ثم جئنا لـ”زيدان” في بداية سبعينيات القرن الماضي لأتعرف عليه ويصادقني صداقة عمر وجيرة طيبة بحي العباسية وفي معيتي الموسيقار “عمر الشاعر” ليهديه لحناً لأولى أغنياتي (باب الريدة وانسده) وكان لسكن الموسيقار الملحن “عمر الشاعر” حافز لهما ليقدما حزمة من الألحان والأغنيات العذبة الراقية وكان لابن الحي الشاعر الرقيق الراحل “محمد جعفر عثمان” القدح المعلى في تلك الأغنيات فأهداه من ألحان “عمر” (وسط الزهور متصور) و(ما أصلو ريدك أصبح حياتي).. و (هل تصدق أخونك) وأغنيات أخرى عديدة.. وكان للراحل الملحن الرائد “الفاتح كسلاوي” لقاء آخر.. إذ قدم له من كلماتي (ليه كل العذاب) وللراحل الموسيقار “سليمان أبو داؤود” آخر لحن من كلماتي غناه “زيدان” (إذا الخاطر سرح عنك).. أما أغنية (ليل البعد يا مضيع سنيني معاك) كانت من كلماتي ويعد اللحن الذي وضعه “زيدان” حسب اعتقاده من أجمل الألحان التي صنع.. والأغنية الوطنية الوحيدة التي جمعتني بـ”زيدان” وهي من ألحان الموسيقار “بشير عباس” كانت (بلادي الطيبة جيتك عندي ليكي كلام كتير).. من أصدقاء “زيدان” المقربين من الفنانين “أبو عركي البخيت” و”خليل إسماعيل”.. ومن أساتذته الذين غنى لهم في بدايته وصدح بأغنياتهم الراحل “وردي” والراحل “إبراهيم عوض” والفنان “الكابلي” ومن أغنيات “زيدان” الجميلة والتي لحنت للراحل الشاعر “مصطفى عبد الرحيم” (جنبك عمري كان أملاً مفرهد يا غرام الروح).. من أحلامه الفنية كان ينوي ولوج عالم أغنية الطفل.
لـ”زيدان” عم واحد شقيق والده هو المرحوم “حسن زيدان”.. وله ابن عمه الوحيد “عرفات حسن زيدان” الذي ورثه بعد وفاته.
شهدت آخر أيام “زيدان” حينما كان مريضاً محتضراً بمستشفى المروة بالقاهرة.. جاء في صحبته زملاؤه بغرفته الموسيقية عازف الكمان “عبد الله الكردفاني” وعازف البيز جيتار ذكرى.
تقارير الأطباء جاءت أن تليف الكبد كان سبب الوفاة وأنه كان يعاني من ذلك المرض منذ سنوات لكنه لم يراجع الأطباء.. في فجر يوم مثل هذه الأيام فاضت روحه إلى بارئها بحجرة العناية المكثفة وفتحت سفارتنا أبوابها لتلقي العزاء.. ومن الفنانات اللائي كن يزرنه في مرضه ولزمن مكان العزاء “جواهر” و”ستونة” وقام سعادة السفير “كمال عبد اللطيف” بواجب تحضير الجثمان وترتيبات نقله.. ووقف الملحق الثقافي د.”إبراهيم” مشرفاً على واجبات مرضه وعزائه.
وجئنا بالجثمان بعد أن صلينا عليه.. بذلك الطائر الحزين الذي حط بمطار الخرطوم عند المغرب وشاهدنا آلاف المستقبلين للصندوق وعلمنا أن العاصمة لا سيما مدينة أم درمان وحي العباسية لفهم الحزن العميق للفقد الأليم، وكنت في معية صديقي د.”البارودي” وزير الثقافة والإعلام بولاية الخرطوم وبصعوبة كان يقود عربته متابعاً العربة التي أقلت الجثمان.. وصلى أهل العباسية صلاة الجنازة بميدان الربيع ولم يسع المصلين ثم صلى بنا مولانا “السموأل خلف” صلاة الجنازة الثالثة بمقابر الحاج يوسف وسط آلاف الحزانى.
يرحمك الله يا “زيدان”.. رحل جسدك لكن صوتك العذب باقٍ ما بقيت الحياة.
ولأهلي بالعباسية الشكر أجزله فقد أنشأوا منظمة باسمه وسموا مسرح مركز شباب الربيع باسمه.